وقال لعبد الله بن عباس :«يابن عمّ ، إنّي والله لأعلم أنّك ناصح مُشفق ، ولكنّي قد أزمعت وأجمعت على المسير»
وقال في موقف آخر :«لأن اُقتل بمكان كذا أو كذا أحبّ إليّ من أن تُستحلّ حرمتها بي ـ يعني الحرم ـ»
وقال لعبد الله بن عمر وقد نصحه بالصلح والمهادنة مع يزيد :
«يا أبا عبد الرحمن ، أما علمت أنّ من هوان الدنيا على الله أنّ رأس يحيى بن زكريّا اُهدي إلى بغي من بغايا بني إسرائيل؟ اتّق الله يا أبا عبد الرحمن ولا تدعَن نصرتي»
وأجاب الفرزدق حين قال له : قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني اُميّة :
«صدقت ، لله الأمر ، والله يفعل ما يشاء ، وكلّ يوم ربّنا في شأن. إن نزل القضاء بما نحبّ فنحمد الله على نعمائه ، وهو المستعان على أداء الشكر ، وإن حال القضاء دون الرجاء فلم يعتد مَنْ كان الحقّ نيّته ، والتقوى سريرته»
وورد إليه كتاب عمر بن سعيد بن العاص عامل المدينة يُمنّيه في الأمان والصلة ، والبرّ وحسن الجوار ، وأرسله إليه مع أخيه يحيى بن سعيد وعبد الله بن جعفر ، فجهدا أن يرجع فلم يفعل ، ومضى وهو يقول :
«قد غسلت يدي من الحياة ، وعزمت على تنفيذ أمر الله».
وهكذا ما نزل منزلاً إلاّ ولقي مَنْ ينصحه بعدم الخروج إلى العراق ، ويذكر له من أنباء أهله ما يكشف عن خذلانهم له وانكفائهم عليه ، حتّى أتاه خبر قتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وهو بالثعلبية ، فأهاب به بعض أصحابه بالرجوع فأبى ، فلمّا كان بزُبالة أتاه خبر قتل أخيه من الرضاعة عبد الله بن يقطر ، فخرج حينذاك إلى مَنْ صحبه من الناس وقال
«أمّا بعد ، فإنّه قد أتاني خبر فظيع قتل مسلم بن عقيل ، وهانئ بن عروة ، وعبد الله بن يقطر ، وقد خذلنا شيعتنا ، فمَنْ أحبّ منكم الانصراف فلينصرف في غير حرج ، ليس عليه منّا ذمام. فتفرّق عنه الناس تفرّقاً ، فأخذوا يميناً وشمالاً حتّى بقي في أصحابه الذي جاؤوا معه من المدينة ، وإنّما فعل ذلك لأنّه ظنّ إنّما اتّبعه الأعراب لأنّهم ظنّوا أنّه يأتي بلداً قد استقامت طاعة أهله ، فكره أن يسيروا معه إلاّ وهم يعلمون علامَ يقدمون. وقد علم أنّهم إذا بيّن لهم لم يصحبه إلاّ مَنْ يريد مواساته والموت معه»
. وأجاب مَنْ نصحه بالرجوع إلى مأمنه من منزله ذاك بعد أن تبيّن له الأمر ، فقال له : «يا عبد الله ، إنّه ليس يخفى عليّ أنّ الرأي ما رأيت ، ولكنّ الله لا يُغلب على أمره»
هذه النُذر كلّها تشير إلى أنّه كان عالماً بالمصير الذي ينتظره. وإذاً فليس لنا أن نبحث عن أهداف ثورة الحسين عليهالسلام ونتائجها في الاستيلاء على مقاليد الحكم والسلطان ؛ لأنّه لم يستهدف من ثورته نصراً آنيّاً ، ولأنّه كان مُدركاً لاستحالة الحصول على نصر آني. وقد يبدو لنا هذا غريباً جدّاً ، فكيف يسير إنسان إلى الموت مع طائفة من أخلص أصحابه طائعاً مختاراً ، وكيف يُحارب في سبيل قضية يعلم أنّها خاسرة ، وكيف يمكّن لعدوّه من نفسه هذا التمكين؟ هذه علامات استفهام كثيرة نبحث عن أجوبتها.
والذي اعتقده هو أنّ وضع المجتمع الإسلامي إذ ذاك كان يتطلّب القيام بعمل انتحاري فاجع يلهب الروح النضالية في هذا المجتمع ، ويتضمّن أسمى مراتب التضحية ونكران الذات في سبيل المبدأ ؛ لكي يكون مناراً لجميع الثائرين حين تلوح لهم وعورة الطريق ، وتضمحلّ عندهم احتمالات الفوز ، وتُرجّح عندهم إمارات الفشل والخذلان.
تابعونا في الحلقة العاشرة