فإذا نحن تجاوزنا هؤلاء الداعين إلى الثورة ثمّ المتخاذلين عنها إلى اُولئك الذين ثبتوا ثائرين مع الحسين عليهالسلام إلى اللحظة الأخيرة. اللحظة التي توّجوا فيها عملهم الثوري بسقوطهم صرعى رأيناهم يحملون نفس الفكرة ، ويبرّرون ثورتهم ويدعون الجيش الاُموي إلى تأييدهم بنفس تلك المبرّرات ؛ الظلم الاجتماعي ، وسياسة الإرهاب ، والإذلال التي يمارسها الحاكمون.
هذا زهير بن القين خرج على فرس له في السلاح ، فخطب الجيش الاُموي قائلاً :
«يا أهل الكوفة ، نذارِ لكم من عذاب الله نذارِ ، إنّ حقّاً على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتّى الآن إخوة على دين واحد ، وملّة واحدة ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منّا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة ، وكنّا نحن اُمّة وأنتم اُمّة.
إنّ الله قد ابتلانا وإيّاكم بذريّة نبيّه محمد صلىاللهعليهوآله ؛ لينظر ما نحن وأنتم عاملون ، إنّا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد ؛ فإنّكم لا تدركون منهما إلاّ بسوء عمر سلطانهما كلّه ؛ لَيُسملان أعينكم ، ويقطعان أيديكم وأرجلكم ، ويُمثّلان بكم ، ويرفعانكم على جذوع النخل ، ويقتلان أماثلكم وقرّاءكم ، أمثالحجر بن عدي وأصحابه ، وهاني بن عروة وأشباهه».
فسبّوه وأثنوا على ابن زياد ، وقالوا : والله لا نبرح حتّى نقتل صاحبك ومَنْ معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى الأمير عبيد الله سلماً ...لقد درسنا فيما تقدّم بعض جوانب ثورة الحسين عليهالسلام على الحكم الاُموي ، فدرسنا ظروفها الاجتماعيّة والنفسية ، ودرسنا أسبابها وغاياتها ، وفي خلال حديثنا هذا صحبنا الحسين عليهالسلام وآله وصحبه في كثير من مراحل عملهم الثوري ، ولم نتحدّث عن عنصر المأساة حديثاً واسعاً ؛ لأنّ ذلك ليس من همّنا كما ذكرنا بين يدي هذه الفصول ، واكتفينا من ذلك بالإشارة التي يقتضيها سياق البحث والاستنتاج.
ونريد الآن أن نتحدّث عن نتائج هذه الثورة وعن عطائها الإنساني ، هل غيّرت هذه الثورة شيئاً من مواقع المجتمع الذي انفجرت فيه؟ وهل حققت نصراً لصانعيها؟ وهل حطّمت أعداءها.
هذه أسئلة تثور على شفتي كلّ مَنْ يقرأ أو يسمع عن ثورة من الثورات ، ويتوقّف الحكم على الثورة بالنجاح أو الفشل على ما تقدّمه الوثائق من أجوبة على هذا الأسئلة ، فهل كانت ثورة الحسين عليهالسلام ناجحة ، أو أنّها كانت ثورة فاشلة ككثير من الثورات التي تشتعل ثمّ تنطفئ ، ولا تخلف وراءها إلاّ ذكريات حزينة تراود بين الحين والحين أحبّاء صرعاها.
قد يُقال : إنّها ثورة فاشلة تماماً ؛ فهي لم تحقق نصراً سياسياً آنيّاً يُطوّر الواقع الإسلامي إلى حال أحسن من الحال التي كان عليها قبل هذه الثورة ، لقد بقي المسلمون بعد الثورة كما كانوا قبلها قطيعاً يُساق بالقوّة إلى حيث يُراد له لا إلى حيث يُريد ، ويُساس بالتجويع والإرهاب. ولقد ازداد أعداء هذه الثورة قوّة على قوّتهم فلم تنل منهم شيئاً ، وأمّا صانعوها فقد أكلتهم نارها ، وشملت أعقابهم مئات من السنين ؛ فحملت إليهم الموت والذلّ ، والتشريد والحرمان ، فهي فاشلة على الصعيد الاجتماعي ، وهي فاشلة على الصعيد الفردي. ولكنّ الحقّ غير ذلك في عين الباحث البصير.
فإنّ علينا لكي نفهم ثورة الحسين عليهالسلام أن نبحث عن أهدافها ونتائجها في غير النصر الآني الحاسم ، وفي غير الاستيلاء على مقاليد الحكم والسلطان ، فإنّ ما بين أيدينا من النصوص دالّ على أنّ الحسين عليهالسلام كان عالماً بالمصير الذي ينتظره وينتظر مَنْ معه.
قال لابن الزبير حين طلب منه إعلان الثورة في مكة :
«وأيم الله ، لو كنت في جُحر هامة من هذه الهوام لاستخرجوني حتّى يقضوا بي حاجتهم. والله ليعتدنّ عليّ كما اعتدت اليهود في السبت» وكان يقول :«والله ، لا يدعوني حتّى يستخرجوا هذه العلقة من جوفي ، فإذا فعلوا سلّط الله عليهم مَنْ يذلّهم حتّى يكونوا أذلّ من فرام المرأة»
وأجمع نصحاؤه ـ حين شاع نبأ عزمه على المسير إلى العراق ـ على أنّه فاشل حتماً في الوصول إلى نتيجة سريعة من ثورته ، فقد كانت قوى المال والسلاح مُتّحدة ضدّه ، فكيف ينتصر؟ وفزعوا إليه ينصحونه بالمكوث في مكة ، أو الخروج عنها إلى غير العراق من بلاد الله ؛ من هؤلاء عمر بن عبدالرحمن المخزومي ، وعبد الله بن عباس ، وعبد الله بن عمر ، ومحمد بن الحنفيّة ، وعبد الله بن جعفر.ولكنّه أبى عليهم ما أشاروا به ، فقال لعبد الرحمن بن الحرث :«جزاك الله خيراً يابن عمّ ، فقد والله علمت أنّك مشيت بنصح ، وتكلّمت بعقل ، ومهما يقضِ الله من أمر يكن ، أخذتُ برأيك أو تركته ، فأنت عندي أحمد مُشير ، وأنصح ناصح» تابعونا في الحلقة التاسعة