أمّا يزيد فقد كان على الضدّ مع أبيه في كلّ ما كان يحول بين الحسين عليه السلام وبين الثورة على أبيه لقد كان يزيد من أبعد الناس عن الحذر والحيطة والتروّي.
كان إنساناً صغير العقل، متهوراً، سطحي التفكير، «لا يهم بشيء إلاّ ركبه».
واُسلوبه في معالجة المشاكل التي واجهته خلال حكمه يعزّز وجهة النظر هذه. اُسلوبه في معالجة ثورة الحسين عليه السلام، واُسلوبه في معالجة ثورة أهل المدينة، واُسلوبه في معالجة ثورة ابن الزبير.
وتدلّ بعض الملاحظات التي ذكرها المؤرّخون عن حياته العاطفية أنّ هذا النزق والتهوّر، والاستجابة السريعة العنيفة للانفعال ليس أموراً عارضة، بل هي سمات أصيلة في شخصيته ونشأة يزيد المسيحية، أو القريبة من المسيحية، جعلته أضعف ما يكون صلة بالعقيدة التي يُريد أن يحكم الناس باسمها، أعني الإسلام. وحياة التحلّل التي عاشها قبل أن يلي الحكم، والانسياق مع العاطفة، وتلبية كلّ رغباته، كلّ ذلك جعله عاجزاً عن التظاهر بالورع والتقوى والتلبّس بلباس الدين بعد أن حكم المسلمين، هذا بالإضافة إلى أنّ طبيعته النزقة جعلته يُعالن الناس بارتكاب المحرّمات، ويُقارف من الآثام ما عرف الناس بمدى بُعده عن الصلاحية لتولّي منصب الخلافة.
موقف الحسين عليه السلام من يزيد في حياة معاوية
وقد حاول معاوية أن يُقيّد الإمام الحسين عليه السلام ببيعة يزيد، أو يضمن ـ على الأقل ـ سكوت الإمام الحسين عليه السلام عن يزيد، فلم يفز بطائل.
ويروي المؤرّخون عدّة مواقف للحسين عليه السلام مع معاوية حين أخذ يعدّ الأمر لابنه يزيد من بعده، وكان من جملة كتبه إليه في هذا الشأن قوله في أحدها:
«... وفهمت ما ذكرت عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد؛ تريد أن توهم الناس في يزيد كأنّك تصف محجوباً، أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاص. وقد دلّ يزيد من نفسه على موضع رأيه؛ فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب الهراش عند التهارش ، والحمام السبق لأترابهنّ ، والقيان ذوات المعازف ، وضرب الملاهي تجده باصراً ، ودع عنك ما تحاول ؛ فما أغناك أن تلقى الله من وزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه. فوالله ما برحت تقدح باطلاً في جور، وحنقاً في ظلم حتّى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ...».
وقد أراد معاوية أن يحمل الحسين عليه السلام على البيعة ليزيد بحرمان بني هاشم جميعاً من أعطياتهم حتّى يبايع الحسين عليه السلام، فلم يتحقق له ما أراد، ومات معاوية والحسين عليه السلام باقٍ على موقفه من الإنكار لبيعة يزيد.
موقف الحسين عليه السلام من البيعة ليزيد
«ومات معاوية حين مات وكثير من الناس وعامة أهل العراق ـ بنوع خاص ـ يرون بغض بني اُميّة وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً»
وهكذا فقد انزاحت بموت معاوية ووعي المجتمع الإسلامي جميع الأسباب التي كانت تحول بين الحسين عليه السلام وبين الثورة في عهد معاوية، وبدا الطريق إلى الثورة على الحكم الاُموي مُمهّداً أمام الحسين عليه السلام.
وقد عجّل تلهف يزيد على أخذ البيعة له من كبار زعماء المعارضة له ـ وعلى رأسهم الحسين عليه السلام ـ في تتابع الأحداث. فقد كان أكبر همّه حين آل الأمر بعد موت أبيه هو بيعة النفر الذين أبوا على معاوية بيعة يزيد، فكتب إلى الوليد بن عتبة والي المدينة كتاباً يُخبره فيه بموت معاوية، وكتاباً آخر جاء فيه:
«أمّا بعد، فخذ حسيناً، وعبد الله بن عمر، وابن الزبير بالبيعة أخذاً ليس فيه رخصة حتّى يبايعوا، والسّلام». ولقد آثر الحسين عليه السلام أن يتخلّص من الوليد بالحُسنى حين دعاه إلى البيعة، فقال له:
«مثلي لا يبايع سرّاً، ولا يجتزئ بها منّي سرّاً، فإذا خرجت للناس ودعوتهم للبيعة ودعوتنا معهم كان الأمر واحداً».
ولكن مروان قال للوليد: «لئن فارقك الساعة ولم يُبايع لا قدرت منه على مثلها أبداً حتّى تكثر القتلى بينكم وبينه، ولكن احبسه فإن بايع وإلاّ ضربت عنقه».
فوثب الحسين عليه السلام عند ذلك، وقال:«ويلي عليك يابن الزرقاء! أنت تأمر بضرب عُنقي؟ كذبت ولؤمت».
ثمّ أقبل على الوليد فقال: «أيها الأمير، إنّا أهل بيت النبوّة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، بنا فتح الله، وبنا يختم، ويزيد فاسق فاجر، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمة، معلن بالفسق والفجور، ومثلي لا يبايع مثله».
تابعونا في الحلقة السادسة