ولقد كان معاوية خليقاً بأن يستغل في سبيل تشويه ثورة الحسين عليه السلام ـ لو ثار في عهده ـ هذا الميثاق الذي كان نتيجة صلح الحسن عليه السلام مع معاوية، فلقد عرف عامّة الناس أنّ الحسن والحسين عليهما السلام قد عاهدا معاوية على السكوت عنه، والتسليم له ما دام حيّاً، ولو ثار الحسين عليه السلام على معاوية لأمكن لمعاوية أن يصوّره بصورة المنتهز الناقض لعهده وميثاقه الذي أعطاه.
ونحن نعلم أنّ الحسين عليه السلام ما كان يرى في عهد معاوية عهداً حقيقياً بالرعاية والوفاء؛ فقد كان عهداً تمّ بغير رضاً واختيار، وقد كان عهداً تمّ في ظروف لا بدّ للمرء في تغييرها.
ولم يحمل نفسه مؤونة الوفاء به، فلو كان عهداً صحيحاً لكان الحسين عليه السلام في حلّ منه؛ لأنّ معاوية قد تحلل منه، ولم يأل في نقضه جهداً.
ولكنّ مجتمع الحسين عليه السلام، هذا المجتمع الذي رأينا أنّه لم يكن أهلاً للقيام بالثورة، والذي كان يؤثر السلامة والعافية كان يرى أنّه قد عاهد، وإنّ عليه أن يفي وأكبر الظنّ أنّ ثورته ـ لو قام بها في عهد معاوية ـ كانت ستفشل على الصعيد السياسي وعلى الصعيد الاجتماعي حين ينظر إليها المجتمع الإسلامي من الزاوية التي كان معاوية سيسلّط عليها الأضواء، وهي هذا العهد والميثاق الذي نقضه الحسين عليه السلام وأنصاره من الثائرين، فيظهرها للرأي العام وكأنّها تمرّد غير مشروع.
ولعلّ هذا هو ما يفسّر جواب الحسين عليه السلام لسليمان بن صرد الخزاعي حين فاوضه في الثورة على معاوية، والحسن عليه السلام حي، فقد قال له:
«فليكن كلّ رجل منكم حلساً من إحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً؛ فإنّها بيعة كنتُ والله لها كارهاً، فإن هلك معاوية نظرنا ونظرتم، ورأينا ورأيتم».
وجوابه لعدي بن حاتم الطائي وقد فاوضه في الثورة أيضاً بقوله:
«إنّا قد بايعنا وعاهدنا، ولا سبيل لنقض بيعتنا»
وقد كان معاوية يستغل هذه الحُرمة التي للعهد في نفوس الناس؛ فيلوّح بها في مكاتباته إلى الإمام الحسين عليه السلام حول نشاطه في تعبئة المجتمع الإسلامي للثورة على الحكم الاُموي؛ فقد كتب إليه.
«أمّا بعد، فقد انتهت إليّ اُمور عنك، إن كانت حقّاً فإنّي أرغب بك عنها. ولعمر الله، إنّ مَنْ أعطى عهد الله وميثاقه لجدير بالوفاء، وإنّ أحق الناس بالوفاء مَنْ كان مثلك في خطرك وشرفك، ومنزلتك التي أنزلك الله بها. ونفسك فاذكر، وبعهد الله أوفِ؛ فإنّك متى تنكرني أنكرك، ومتى تكدني أكدك، فاتقِ شقّ عصا هذه الاُمّة».
فها هو ذا معاوية يُلوّح هنا بالعهد والميثاق، ويُطالب بالوفاء بهما.
ولربما فهم الناس من ثورته لو ثار في عهد معاوية أنّه كان على غير رأي أخيه الحسن عليه السلام في الصلح مع معاوية، وقد كان الحسين عليه السلام دائماً حريصاً على أن يُظهر اتّفاقه مع أخيه في القرار الذي اتّخذه ومن جملة ما يدلّ على ذلك جوابه لعلي بن محمد بن بشير الهمداني حين ذكر له امتناع الحسين عليه السلام
من إجابة مَنْ دعاه إلى الثورة بعد الصلح، مبيّناً لهم عدم استعداد المجتمع الإسلامي لذلك: «صدق أبو محمد، فليكن كلّ رجل منكم حلساً من إحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حيّاً»
وكان هذا هو السبب الذي دفع بالحسن عليه السلام إلى أن يُصالح معاوية بعدما تبيّن له عقم محاولة المضي في الصراع، ولولا ذلك لما صالح الحسن عليه السلام معاوية، ولما قعد الحسين عليه السلام عن الثورة على معاوية. وقد أضاف هذا الصلح سبباً آخر منع الحسين عليه السلام من الثورة على معاوية الذي كانت شخصيته عاملاً في جعل الثورة عليه عملاً غير مضمون بالنجاح؛ ولذا فقد كان لا بدّ للحسن والحسين عليهما السلام ـ وهذه هي ظروفهما في عهد معاوية ـ أن يُهيّئا هذا المجتمع للثورة، وأن يعدّاه لها.
وقد مضت الدعوة إلى الثورة على الحكم الاُموي تنتشر بنجاح طيلة عهد معاوية، تجد غذاءها في ظلم معاوية وجوره، وبُعده عن تمثيل الحكم الإسلامي الصحيح، وانتهى الأمر بهذه الدعوة إلى هذا النجاح الكبير الذي أوجزه الدكتور طه حسين في هذه الكلمات:
«ومات معاوية حين مات، وكثير من الناس وعامّة أهل العراق بنوع خاص يرون بغض بني اُميّة وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً»
تابعونا في الحلقة الخامسة