وأكبر الظنّ أنّ الحسين عليه السلام لو ثار في عهد معاوية لما استطاع أن يسبغ على ثورته هذا الوهج الساطع الذي خلّدها في ض؛مائر الناس وقلوبهم، والذي ظلّ يدفعهم عبر القرون الطويلة إلى تمثّل أبطالها، واستيحائهم في أعمال البطولة والفداء.
وسرّ ذلك يكمن في شخصيّة معاوية، واُسلوبه الخاصّ في معالجة الأمور؛ فإنّ معاوية لم يكن من الجهل بالسياسة بالمثابة التي يُتيح فيها للحسين عليه السلام أن يقوم بالثورة مدوّية، بل الراجح أنّه كان من الحصافة بحيث يُدرك أنّ جهر الحسين عليه السلام بالثورة عليه، وتحريضه الناس على ذلك كفيل بزجّه في حروب تُعكّر عليه بهاء النصر الذي حازه بعد صلح الحسن عليه السلام، إن لم يكن كافياً لتفويت ثمرة هذا النصر عليه؛ لأنّه عارف ـ ولا ريب ـ بما للحسين عليه السلام من منزلة في قلوب المسلمين.
وأقرب الظنون في الاُسلوب الذي يتبعه معاوية في القضاء. على ثورة الحسين عليه السلام ـ لو ثار في عهده ـ هو أنّه كان يتخلّص منه بالسمّ قبل أن يتمكّن الحسين عليه السلام من الثورة، وقبل أن يكون لها ذلك الدوي الذي يُموّج الحياة الإسلاميّة التي يرغب معاوية في بقائها هادئة ساكنة.
ولقد مارس معاوية هذا الاُسلوب في القضاء على الحسن بن علي عليهما السلام، وسعد بن أبي وقاص، ومارسه في القضاء على الأشتر لمّا توجّه إلى مصر، ومارسه في القضاء على عبد الرحمن بن خالد بن الوليد لمّا رأى افتتان أهل الشام به (2).
وقد أوجز هو اُسلوبه هذا في كلمته المأثورة:
«إنّ لله جنوداً من العسل».
فلو تحفّز الحسين عليه السلام للثورة في عهد معاوية ثمّ قُضي عليه بهذه الميتة التي يُفضلها معاوية لأعدائه، فماذا كانت تكون جدوى فعله هذا الذي لم يخرج عن حدود الفكرة إلى أن يكون واقعاً بحياة الناس بدمائهم وأعصابهم؟ وما كان يعود على المجتمع الإسلامي من موته وقد قضى كما يقضي سائر الناس بهدوء وبلا ضجيج؟ إنّه لن يكون حينذاك سوى علوي مات حتف أنفه، يُثير موته الأسى في قلوب أهله ومحبيه وشيعة أبيه إلى حين، ثمّ يطوي النسيان ذكراه كما يطوي جميع الذكريات.
وأين هذا ممّا صار إليه أمره وأمر مبدئه حين ثار في عهد يزيد؟
وإذا بحثنا عن السبب في إخفاق ثورة الحسين عليه السلام لو ثار في عهد معاوية لوجدناه في مسحة الدين التي كان معاوية يحرص على إسباغها على سلوكه وسائر تصرّفاته أمام العامّة، وفي صفة الشرعية التي أفلح في أن يسبغها على منصبه لدى جانب كبير من الرأي العام الإسلامي.
فإنّ هذا الواقع كان يُجرّد ثورة الحسين عليه السلام ـ لو ثار ـ من مبرّرها الوحيد؛ لأنّ الجواب الذي كان سيقدّمه معاوية وأعوانه للناس حيث يتساءلون عمّا حمل الحسين عليه السلام على الثورة ، أو يجيب به الناس أنفسهم ، هو أنّ الحسين عليه السلام طالب ملك ، ولو قُتل الحسين عليه السلام في سبيل ما توهّمه الناس هدفاً من ثورته لما أثار قتله استنكاراً ، ولما عاد قتله بشيء على مبادئه ودوافعه الحقيقية للثورة ، بل ربّما عدّه فريق من الناس مستحقّاً للقتل ، ولن يجدي الحسين عليه السلام وأنصاره أن يعلنوا للناس أنّ ثورتهم لحماية الدين من تحريف وتزييف معاوية ، وإنقاذ الأمّة من ظلمه ، فلن يصدّقهم الناس ؛ لأنّهم لا يرون على الدين من بأس ، ولم يُحدث معاوية في الدين حدثاً ، ولم يُجاهر بمنكر ، بل سيرى الناس أنّ مقالتهم هذه ستار يخفي مقاصدهم الحقيقية.
تابعونا في الحلقة الرابعة