في رده على معاوية حول شرعية نسب زياد بن ابيه قال الامام الحسين (ع): (او لست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش عبيد من ثقيف؟ فزعمت انه ابن ابيك؟ وقد قال رسول الله (ص) واله ((الولد للفراش، وللعاهر الحجر)) فتركت سنة رسول الله (ص) واله وتبعت هواك بغير هدى من الله، ثم سلطته على اهل الإسلام، يقتلهم، ويقطع أيديهم، وارجلهم، ويسمل عيونهم، وعلى جذوع النخل، كأنك لست من هذه الامة وليسوا منك).
(أو لست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية انهم على دين علي صلوات الله عليه؛ فكتبت اليه أن اقتل كل من كان على دين علي فقتلهم، ومثل بهم بأمرك، ودين علي هو دين بن عمه (ص) واله الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه).
(وقلت فيما قلت: انظر لنفسك ولدينك، ولامة محمد، واتق شق عصا هذه الامة، وأن تردهم الى فتنة. واني لا اعلم فتنة أعظم على هذه الامة من ولايتك عليها، ولا أعظم نظراً لنفسي ولديني، ولامة محمد (ص) واله من أن اجاهدك...)
(وقلت فيما قلت: ان انكرك تنكرني، وان اكدك تكدني، فكد ما بدا لك، فاني ارجو الا يضرني كيدك، وان لا يكون عليَّ أحد أضر منه على نفسك، لأنك قد ركبت جهلك، وتحرصت على نقض عهدك، ولعمري ما وفيت بشرط، ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والايمان، والعهود والمواثيق، ولم تفعل ذلك الا لذكرهم فضلنا، وتعظيمهم حقنا، وليس الله بناس لأخذك بالظنة، وقتلك اولياءه على التهم، ونفيك اولياءه من دورهم الى دار الغربة...)
السر في قعود الحسين (ع) عن الثورة ضد معاوية
الوضع النفسي والاجتماعي
لقد كانت حروب الجمل وصفين والنهروان، والحروب الخاطفة التي نشبت بين القطع السورية وبين مراكز الحدود في العراق والحجاز واليمن بعد التحكيم قد ولدت عند أصحاب الامام علي(ع) حنيناً الى السلم والموادعة، فقد مرت عليهم خمس سنين وهم لا يضعون سلاحهم من حرب الا ليشهروه في حرب أخرى، وكانوا لا يحاربون جماعات غربية عنهم، وانما يحاربون عشائرهم واخوانهم بالأمس، ومن عرفهم وعرفوه..
وقد افاد خصوم الامام (ع) من زعماء القبائل ومن إليهم ممن اكتشفوا ان سياسته لا يمكن ان تلبي مطامحهم التي تؤججها سياسة معاوية، في المال والولايات. وساعد على تأثير هؤلاء الزعماء ونفوذهم في أوساط المجتمع الروح القبلية التي استفحلت في عهد عثمان بعد ان أُطلقت من عقالها بعد وفاة النبي (ص) واله. فان الانسان ذا الروح القبلية، ينفعل بانفعالاتها، ويطمح الى ما تطمح اليه قبيلته، ويعادي من تعادي، وينظر الى الأمور من الزاوية الت تنظر منها القبيلة، فالرئيس في المجتمع القبلي هو المهيمن والموجه للقبيلة كلها.
وقد كان رؤساء القبائل هؤلاء قد باعوا أنفسهم من معاوية، الذي كتب الى كثير منهم يغريهم بالتخلي عن الحسن والالتحاق به، ولما رأى الامام الحسن (ع) -اما هذا الواقع السيء – ان الظروف النفسية والاجتماعية في مجتمع العراق جعلت هذا المجتمع عاجزاً عن النهوض بتبعات القتال وانتزاع النصر، ورأى ان الحرب ستكلفه استئصال المخلصين من اتباعه، حينئذ جنح الى الصلح بشروط منها الا يعهد معاوية لاحد من بعده، وان يكون الامر للحسن وان يترك الناس ويؤمنوا.
ان موقف الامام الحسن لم يكن مغامراً، ولا طالب مللك، ولا زعيماً قبلياً يفكر ويعمل بالعقلية القبلية، وانما كان صاحب رسالة وحامل دعوة وكان عليه ان يتصرف على هذا الأساس، ولقد كان الموقف الذي اتخذه هو الموقف الملائم لأهدافه كصاحب رسالة وان كان ثقيلا على نفسه، مولاً لمشاعره الشخصية.
فاذا كان الناس قد كرهوا الحرب لطول معاناتهم لها ورغبوا في السلم انخداعاً بحملة الدعاية التي بثها فيهم عملاء معاوية ، اذ منوهم بالرخاء والاعطيات الضخمة ، والدعة والسكينة ، وطاعة لرغبات زعمائهم القبليين ، فان عليهم ان يكتشفوا بأنفسهم مدى الخطأ الذي وقعوا فيه حين ضعفوا عن القيام بتبعات القتال، وسمحوا للاماني بان تخدعهم ولزعمائهم بأن يضللوهم ، ولا يمكن ان يكتشفوا ذلك الا اذا عانوا هذا الحكم بأنفسهم: عليهم ان يكتشفوا طبيعة هذا الحكم وواقعه ، وما يقوم عليه من اضطهاد وحرمان ، ومطاردة مستمرة ، وخنق للحريات . وعلى الامام الحسن واتباعه المخلصين ان يفتحوا أعين الناس على هذا الواقع وان يهيئوا عقولهم وقلوبهم لا كتشافه، والثورة عليه، والاطاحة به.
وبينما راح الزعماء القبليون يجنون ثمرات عهد معاوية بدأ العراقيون العاديون يكشفون رويداً رويداً طبيعة هذا الحكم الظالم الشرس الذي سعوا اليه بأنفسهم، وثبتوه بأيديهم.
((وقد جعل اهل العراق يذكرون حياتهم أيام علي فيحزنون عليها، ويندمون على ما كان من تفريطهم في جنب خليفتهم ويندمون على ما كان من الصلح بينهم وبين اهل الشام...)) فكثيراً ما جاء العراقيون الى الحسن يطلبون منه ان يثور، ولكنه كان يعدهم المستقبل ويعدهم للثورة. وها هو يجيب حجر بن عدي الكندي بقوله: ((أني رأيت هوى عظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب فلم أحب ان احملهم على ما يكرهون، فصالحت بقياً على شيعتنا خاصة من القتل، ورأيت دفع هذه الحرب الى يوم، فأن الله كل يوم هو في شأن))
واذن فهذه فترة اعداد وتهيؤ حتى يأتي اليوم الموعود حين يكون المجتمع قادراً على الثورة مستعداً لها، أما الان فلم يبلغ المجتمع هذا المستوى من الوعي، بل لا يزال أسير الاماني والآمال.
ولم يكن الحسين (ع) اقل ادراكاً لواقع مجتمع العراق من أخيه الحسن (ع)، فقد رأى من هذا المجتمع وتخاذله مثل ما رأى أخوه، ولذلك فقد أثر ان يعد مجتمع العراق للثورة، ويعبئه لها، بدل ان يحمله على القيام بها الان.
وعندما كتب اليه اهل العراق يسألونه ان يجيبهم الى الثورة على معاوية، كتب إليهم ((اما اخي فأرجو ان يكون الله قد وفقه وسدده فيما يأتي، واما انا فليس رأيي اليوم ذلك، فألصقوا رحمكم الله بالأرض، واكمنوا في البيوت، واحترسوا من الظنة ما دام معاوية حياً)) واذن فقد كان رأي الحسين (ع) الا يثور في عهد معاوية وهو يأمر أصحابه بأن يخلدوا الى السكون والهدوء. وهذا يوحي لنا بان حركة منظمة كانت تعمل ضد الحكم الاموي في ذلك الحين، وان دعاتها هم هؤلاء الاتباع القليلون المخلصون الذين ضن بهم الحسن عن القتل، وان مهمة هؤلاء كانت بعث روح الثورة في النفوس عن طريق اظهار المظالم التي حفل بها عهد معاوية انتظاراً لليوم الموعود.
تابعونا في الحلقة الثالثة (شخصية معاوية)