منذ مطلع القرن العشرين، لم تكن كربلاء مدينة تقليدية ذات بعد ديني فحسب، بل تحولت إلى مسرح خفي للحراك الاجتماعي والسياسي والفكري، فبين عاميّ 1914 و1945، ظهرت في المدينة جمعيات دينية، سياسية، وأدبية أسّستها شخصيات كربلائية بارزة، بهدف خدمة المدينة المقدسة، والتصدي للظلم والاستعمار، وتنظيم الحياة الاجتماعية في وجه الاضطرابات.
وفي زمن خنق فيه السلطان عبد الحميد الثاني الحريات العامة، وُلدت في كربلاء أولى بوادر المقاومة الفكرية، مع تأسيس فرع "جمعية الاتحاد والترقي" عام 1908م، كإمتداد لحركة "القلوب المتحدة"، حيث واجهت هذه الجمعية الاستبداد العثماني، وساهمت في بثّ روح التمرد على الظلم، فانتسب لها شباب مثقفون أمثال الشيخ "حسن السنبلي"، والحاج "عبد المهدي الحافظ".
وفي نفس العام، ظهرت جمعية أخرى بإسم "جمعية مكافحة الاستبداد"، كما عُرفت باسمها الحقيقي "أنجمن الأحرار"، وكان مركزها في محلة العباسية الغربية، والتي ركّزت على إعلان الدستور ومجابهة القمع في إيران، حيث ضمّت شخصيات لامعة مثل الشيخ "جواد الببهاني".
وفي عام 1918م، وبين الأزقة الضيقة لمنطقة "باب النجف"، تأسست "الجمعية الإسلامية" السرية برعاية المرجع الكبير، آية الله الشيخ "محمد تقي الشيرازي"، وبرئاسة نجله الشيخ "محمد رضا"، والتي كان هدفها الأسمى مقاومة الاحتلال البريطاني والمطالبة باستقلال العراق.
هذه الجمعية لم تكتفِ بالعمل السياسي، بل عملت على توحيد القبائل، واحتواء النزاعات العشائرية، وتشكيل جبهة موحدة خلف المشروع الوطني، حيث بلغ تأثيرها حداً جعل بريطانيا تعتبرها تهديداً وجودياً، لتعتقل قادتها وتنفِيهم إلى جزيرة "هنجهام".
وكان للشيخ الشيرازي الكلمة الأقوى عندما أصدر فتوى تاريخية حرّمت انتخاب غير المسلم لحكم المسلمين، فشكّلت هذه الفتوى ذروة التحدي المباشر لسلطة الاحتلال البريطاني، ورسّخت مشروعية نضال الجمعية الإسلامية.
هذا ولم تقتصر الجمعية الإسلامية على مدينة كربلاء، بل أنشأت فروعاً في عدة مدن عراقية، وتعاونت مع مسؤولين حكوميين متعاطفين، مثل "خليل عزمي بك"، و"سيد مهدي الحسني"، كما كان للجمعية امتداد شعبي واسع دعمها زعماء العشائر أمثال الشيخ "كاصد ناهي" من قبيلة "مياح" العريقة.
كما أُسست جمعية موازية باسم "الجمعية الوطنية الإسلامية"، والتي إتحدت مع الجمعية الأم في دعم الاستفتاء على مَلَكيّة العراق، ورشّحت الملك فيصل نجل الشريف حسين كملك دستوري للعراق، ورفعت شعار "حب الوطن من الإيمان".
في بغداد، وفي أواخر شباط 1919م، تأسست جمعية "حرس الاستقلال"، التي شكّلت الامتداد الحضري لحركة المقاومة الوطنية، والتي كان من مؤسسيها، جلال بابان، ومحمد باقر الشبيبي، وجعفر أبو التمن، والسيد محمد الصدر، تحت شعار لا يقبل التأويل "استقلال كامل... وملك من أبناء الشريف حسين".
وقد أرسل الشبيبي إلى الفرات الأوسط لإشعال الحس الوطني، وتوالت الاتصالات بين كربلاء وبغداد، لتنضج بذلك بذور ثورة العشرين، التي بدأت بفتوى وانطلقت بنخوة وطنية.
ختاماً، فإن الجمعيات التي ظهرت في كربلاء ما بين 1914 و1945م لم تكن مؤسسات عابرة، بل كانت تمثّل ضمير الأمة وعقلها المقاوم، فمن الفتاوى إلى الاجتماعات السرية، ومن نشر الوعي إلى تشكيل الائتلافات العشائرية، كانت هذه الجمعيات مشروعاً وطنياً عراقياً بامتياز، ترك بصمته في قلب التاريخ العراقي الحديث.
المصدر: إشراق الطائي، تيسير الخزعلي، الأحزاب والجمعيات السياسية في كربلاء من عام 1914-1945، بحث علمي، ص11-20.