في مدينة كربلاء، لا يقتصر الفخر على التاريخ العريق أو المراقد الطاهرة، بل يتجسّد في أبناء هذه المدينة الذين حملوا عبر الأجيال راية الأخلاق الرفيعة والسجايا الكريمة، حتى غدت هذه القيم سمةً متأصلة في الوجدان الكربلائي.
فمنذ القدم، شكّل الدين الإسلامي الحنيف نبعاً يُغذي نفوس أهل كربلاء، فانتشرت فيها المساجد والحسينيات، لتكون منصات تُجدد فيها ذكرى أهل البيت "صلوات الله عليهم" في كل مناسبة، عبر مجالس ذِكر ومواكب عزاء بقيت نابضة عبر العصور.
وخلال مراجعة دقيقة لتاريخ العوائل الكربلائية، توصّل مركز كربلاء للدراسات والبحوث وعبر موسوعته الحضارية الشاملة، إلى وثائق وقفية ومستندات أصلية، تتضمن تواقيع وأختام رؤساء تلك الأسر، ما يثبت وجودها الراسخ في النسيج الاجتماعي للمدينة.
هذه التواقيع لم تكن مجرد رموز، بل شواهد حية على أُسر حملت لواء الإيمان والمروءة، وبنت لنفسها مكانة اجتماعية متميزة عبر الإخلاص في الدين، والعمل، والعلاقات الطيبة مع أبناء المجتمع.
ومن بين الظواهر الاجتماعية الفريدة، برزت في كربلاء علاقات الحماية والانتماء العشائري، إذ أن بعض الأفراد ممن كان في حاجة ماسّة إلى حماية اجتماعية من خصوم محتملين، يلجأون إلى الانضمام لعشائر مرموقة توفّر لهم الأمان، ومع مرور الزمن، وتطوّر العلاقة إلى حسن جوار ومصاهرة، يصبح الفرد جزءاً من هذه العشيرة بكل ما تحمله من تقاليد واعتزاز.
ويُضاف إلى ما سبق، أن بعض الأسر الكربلائية اكتسبت ألقابها من المهنة التي احترفوها كالصياغة، أو الخط، أو الزراعة، أو من أسماء الأجداد المؤسسين الذين طبعت سيرتهم سطور الذاكرة الشعبية.
إن تتبع جذور هذه العوائل لا يعني مجرد دراسة في التاريخ، بل هو كشف لنسيج اجتماعي أصيل يجعل من كربلاء مدينة لا تُختصر في موقعها الجغرافي، بل تمتد كهوية أخلاقية وثقافية وروحية، تؤثر في المحيط وتستلهمها الأجيال.
وهكذا، تبقى كربلاء بأهلها وعوائلها، منارةً تُجدد في كل عصر صورة الإسلام الحقيقي، وصرحاً تحفظ فيه الأخلاق كما حفظت المعالم المقدسة.
المصدر: سلمان هادي طعمة، عشائر كربلاء وأسرها، دار المحجة البيضاء، 1998، ص7-8.