الإيثار هو تفضيل الإنسان غيرَه على نفسه، والفعل آثرَ، قال الله تعالى «وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ»، سورة الحشر:9، ويقابله الأَثَرة، وهو حُبّ النَّفس، أو تفضيل الإنسان نفسَه على غيره، الاستئثار، الأنانيَّة.
الإيثار وتفضيل الغير على النفس هي قيمة دينية يحث عليها الشرع، وفي رواياتهم عليهم السلام كثيرا من التأكيدات عليها، وبيان منزلتها:
وفي غرر الحكم عن أمير المؤمنين عليه السلام: «خَيْرُ الْمَكَارِمِ الْإِيثَارُ»، ص354، «الْإِيثَارُ أَشْرَفُ الْإِحْسَانِ» ص32، «الْإِيثَارُ أَشْرَفُ الْكَرَمِ» ص51، «الْإِيثَارُ سَجِيَّةُ الْأَبْرَارِ وشِيمَةُ الْأَخْيَارِ» ص128. «أَفْضَلُ اَلسَّخَاءِ اَلْإِيثَارُ»،ص187.
والدعوة للمؤمنين بالإيثار «عَامِلْ سَائِرَ النَّاسِ بِالْإِنْصَافِ، وَعَامِلِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِيثَارِ»، غرر الحکم، ص467.
وهذه الصفة والسجية تبيّن مكانة وسيادة أصحابها، وجوهر معدنهم، وقد تترشح بها صفات وفضائل أخرى، ولها تأثير كبير في استمالة وجذب النّاس لصاحبها دون تكلف.
وأحد مظاهر وصفات خدمة الأربعين ومواكبه وزواره هو الإيثار، وخاصة عند أصحاب المواكب، وإيثارهم على أنفسهم كنوع من الفداء والتضحية بما يملكون في خدمة زوار الحسين عليه السلام في الأربعين، ويقوم به أصحاب المواكب وخدمة الزوار كنوع من التعهد والالتزام الديني والأخلاقي بخدمة الزائرين على حساب أنفسهم في كل خدمة يستطيعون تقديمها.
الأربعين مكان ومظهر الإيثار في العالم، ومظاهر الإيثار في كل زاوية من مسير وإقامة زوار الحسين ومواكبه، مظهر الإيثار في تقديم الأطعمة، ومظهر الإيثار في الخروج من بيوتهم وتفريغها للزوار، وفي كثير من المواصلات والإقامات في كربلاء في الأربعين، وكل هذه بركات من المولى أبي عبد الله عليه السلام، وآل محمد صلوات الله عليهم.
وقد التقطت في أحد مواسم الأربعين صورة معبرة ومؤثرة في بيان الإيثار وانتشرت في برامج التواصل الاجتماعي وهي مجموعة من الزوار يتغدّون في الشمس ويبدو أنّ الوقت ظهرا مع ارتفاع الحرارة، وحولهم مجموعة من الشباب يبدو أنّهم من أعضاء الموكب المضيّف يظللون لهم عن حرارة الشمس وأشعتها بكل سعادة وسرور وإخلاص، فهم يتحملون الشمس الحارقة ويَقُون زوار الحسين عليه السلام منها.
وصورة أخرى حصلت أمامي في السنة الماضية حيث مشينا أنا وأحد الأخوة الحجاج من أصحاب قوافل وحملات زيارة الأربعين بعد الظهر مباشرة، في حدود الساعة الثانية ظهرا أو أقل، قبل الأربعين بأيام وتقريبا بتاريخ 18 صفر 1446هـ ويوافق 23-08-2024م، وترافقنا رغم صعوبة الحركة في هذا الوقت، وتحركنا من موكب بيت الأحزان ويقابله موكب شيعة بلجيكا ويقع في العمود 335 بين النجف و كربلاء، وكان يوم شديد الحرارة في العراق، والشمس لا ظل لها ظهرا، والطريق قليل الزوار في هذا الوقت، وكنا نضع الكوفية أو الشماغ أو الغترة فوق رؤوسنا لحمايتنا من أشعة الشمس وضرباتها، وإذا بزائرين يمشيان أمامنا أحدهما لا شيء فوق رأسه في وقت الظهر، وإذا برفيقي قد رفع كوفيته ووضعها فوق رأس حاسر الرأس في جو من الإيثار عجيب، وقد أخجلنا جميعا، وحينما عرضت عليه لاحقا أن يأخذ ما كنت أضعه فوق رأسي رفض، كما رفض أن نشتري له من الطريق كوفية أخرى، وهذا أحد مصاديق الإيثار وقد حدث بصورة عفوية، و مع احتمال خطورة قوية من حدوث ضربة الشمس المؤذية في هذا الوقت من اليوم ومن السنة، حماه الله والزوار جميعا وأظلهم بظله في يوم لا ظل إلا ظله، ببركة الحسين وآل محمد صلوات الله عليهم.
وأهل البيت عليهم السلام مظهر الإيثار، وقد نزل فيهم قوله تعالى «وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا»، سورة الإنسان:8-9. يؤثرون غيرهم على أنفسهم مع الحاجة الماسة إلى الطعام.
وروي «اِشْتَرَى عَلِيٌّ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ ثَوْباً فَأَعْجَبَهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ، وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ يَقُولُ: مَنْ آثَرَ عَلَى نَفْسِهِ آثَرَهُ اَللَّهُ يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ اَلْجَنَّةَ». تفسير نور الثقلين، ج5ص285
وكذلك روي: إنّ أمير المؤمنين عليه السلام أتى سوق الكرابيس فإذا هو برجل وسيم فقال: يا هذا عندك ثوبان بخمسة دراهم؟ فوثب الرجل فقال: نعم يا أمير المؤمنين، فلما عرفه مضى عنه وتركه فوقف على غلام فقال له: يا غلام عندك ثوبان بخمسة دراهم؟ قال: نعم عندي ثوبان أحدهما أخير من الآخر واحد بثلاثة والآخر بدرهمين، قال: هلمَّهما فقال: يا قنبر خذ الذي بثلاثة.
قال: أنت أولى به يا أمير المؤمنين تصعد المنبر وتخطب الناس.
قال: يا قنبر أنت شاب، ولك شره الشباب، وأنا أستحي من ربي أن أتفضَّل عليك لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ألبسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تأكلون، ثم لبس القميص ومد يده في ردنه فإذا هو يفضل عن أصابعه فقال: يا غلام اقطع هذا الفضل فقطعه، فقال الغلام: هلم أكفه يا شيخ فقال: دعه كما هو فإن الأمر أسرع من ذلك. بحار الأنوار،ج100ص94.
وأعظم من ذلك الجود بالنّفس كما في مبيت الإمام عليه السلام على فراش النبي صلى الله عليه وآله لحمايته من المشركين ونجاته، فهو إيثار لنفس رسول الله (ص) على نفسه (ع)، روي عَنْ جَابِرٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ قَالَ: أَمَّا قَوْلُهُ: «وَ مِنَ اَلنّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اَللّٰهِ وَاللّٰهُ رَؤُفٌ بِالْعِبٰادِ» فَإِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ وَ لِرَسُولِهِ لَيْلَةً اِضْطَجَعَ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اَللَّهِ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ لَمَّا طَلَبَتْهُ كُفَّارُ قُرَيْشٍ». تفسیر العیاشي،ج101.
روي عن الإمام الصادق عليه السلام في كيفية المعاملة مع النّاس ومعرفة خاصة الله والمقرّبين له وأوليائه، فذكر أحد أصول المعاملة الإيثار بالموجود، قال في مصباح الشريعة:
«أُصُولُ مُعَامَلَةِ اَلدُّنْيَا سَبْعَةٌ: اَلرِّضَا بِالدُّونِ، وَاَلْإِيثَارُ بِالْمَوْجُودِ وَتَرْكُ طَلَبِ اَلْمَفْقُودِ، وَبُغْضُ اَلْكَثْرَةِ، وَاِخْتِيَارُ اَلزُّهْدِ، وَمَعْرِفَةُ آفَاتِهَا، وَ َفْضُ شَهَوَاتِهَا، مَعَ رَفْضِ اَلرِّئَاسَةِ فَإِذَا حَصَلَتْ هَذِهِ اَلْخِصَالُ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَهُوَ مِنْ خَاصَّةِ اَللَّهِ وَعِبَادِهِ اَلْمُقَرَّبِينَ وَأَوْلِيَائِهِ حَقّاً». مصباح الشريعة، ص5.
والإيثار في مدرسة كربلاء العظمى، فهي مدرسة الإيثار والفداء والتضحيات، حيث تتجسّد في المواقف كلها معاني الإيثار والشهادة، ومنها إيثار أبي الفضل العبّاس عليه السلام حينما وصل إلى الماء ولكنّه أبى أن يشرب ورمى الماء من يده، وقال:
يا نَفْسُ من بعدِ الحسينِ هُوني وبعدَهُ لاَ كُنْتِ أنْ تَكوني
هذا حسينٌ واردُ المَنونِ وتَشْربينَ بارِدَ المَعينِ
تاللهِ ما هذا فِعالُ دِيني ولا فِعَالُ صَادِقِ اليقينِ
حتى استشهد ظمآنا عليه السلام.
وفي دعاء مكارم الأخلاق «اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَأجْرِ لِلنّاسِ عَلى يَديَ الخَيْرَ، وَلا تَمْحَقْهُ بِالمَنِّ، وَهَبْ لي مَعالِيَ الأخْلاقِ، وَاعْصِمْني مِنَ الفَخْرِ»، والحمد لله ربّ العالمين، وصلّ اللهم على محمد وآله الطاهرين.
المقال يمثل رأي الكاتب وليس بالضرورة ان يمثل رأي المركز