أخذ الحقوق أو الخضوع
(لنا حق فإن أعطيناه وإلا ركبنا أعجاز الإبل وإن طال السرى)
حكمة 22 - نهج البلاغة
محمد جواد الدمستاني
الكلام عام و لكن ذُكر أنّ مناسبة هذه الحكمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه و آله في شأن الخلافة.
و الإبل أو الجمل و الجمال يمكن تقسيم مناطق ظهرها إلى ثلاثة أقسام و هي: السنام في وسط الظهر وهو المكان الأعلى، و بعض الجمال ذات سنامين، و المنطقة الواقعة بين نهاية الرقبة و السنام و سنطلق عليها الصدر بمعنى المنطقة الأمامية، و المنطقة الواقعة بين السنام والذيل و هي العجز و هي المنطقة الخلفية.
و ركوب الصدر أكثر راحة من ركوب العجز، و لا يُركب على السنام فهو كتلة ذهنية مرتفعة غير صلبة.
أعجاز جمع عَجُز ، مؤخّر الشيء أو الجسم ، و أعجاز الإبل مآخيرها و هو مركب شاقّ أو صعب ، غير مريح. ومنه عجيزة و عجيزات و عجائز.
السُّرَى يعني المسير ليلا، و هي إشارة إلى الزمن أو طول الزمن، و إلى صعوبة السير ومشقة السير ليلا، فالسير ليلا أكثر مشقة من السير نهارا خاصة بوسائل النقل القديمة و على أعجاز الابل.
و إِنْ طَالَ السُّرَى فإذا طال المسير ليلا تكون المشقة أكبر على راكب عجز الإبل أو البعير، وكان صبر راكب عجز البعير أكبر، أي إنّنا إذا لم نأخذ حقوقنا سيطول بنا مقام المشقة و المرتبة مهما طال الزمن.
هنا في هذه الحكمة علق الشريف الرضي و قال: و هذا من لطيف الكلام و فصيحِهِ، و معناه أنّا إن لم نعط حقُنا كنا أذلاء و ذلك أن الرديفَ يركب عجز البعير كالعبد و الأسير و من يجري مجراهما.
و لعل ذاك محمول على الغالب من ركوب العجز للعبد و الأسير لأنّ راكب الصدر قد يردف ولده أو صديقه أو أخاه، و كان عدة أشخاص من جيش المسلمين في بدر يركبون جملا واحدا.
و في الشروح « رَكِبْنَا أَعْجَازَ الْإِبِلِ » بمعنى أنّ راكب عجز البعير يلحقه مشقّة وضرر و إرهاق، فمع منع الحق تكون مشقة و ضرر.
و ذُكر أنّ « رَكِبْنَا أَعْجَازَ الْإِبِلِ » بمعنى التأخر في الرتبة و تقدم الغير، فإنّ ركوب أعجاز الابل إنما يكون إذا كان أحد متقدم عليه على ظهر البعير أو مقدمة البعير، فراكب العجز يكون متأخر.
و لعل المعنى أنّه إذا لم نُعطى حقُنا، فلن نتوقف من المطالبة به و السعي إليه مع تحمل المشقات والصعوبات حتى يتحقق، مثلما يركب المسافر أعجاز الإبل و هو مكان شاق وصعب وخاصة مع السير ليلا و طول السفر ، حتى يصل مقصده.
و يمكن أن يكون المعنى أنّه إذا مُنعنا من أخذ حقنا أو حقوقنا و لم نتحصل عليها سنكون أتباعا لغيرنا، متأخرين رتبة، لأن راكب عجز البعير يكون ردفا لغيره، و سيطول بنا البقاء بهذه المرتبة مهما طال الزمن و السنين دون تغيير.
و قال العاملي في معناه: إن الخلافة حق لنا مأخوذ منا، وعلى آخذه أن يرجعه إلينا، و سوف نأخذه منه، فلا يتوهمن أحد أننا صرفنا النظر عنه ...». الصحيح من سيرة الإمام علي ( ع )، ج ١٥،ص ١٨٤
و تقريبه بالنصوص الحالية هو أنّه لنا حقوق يجب علينا أخذها لنكون في المكان و المرتبة الصحيحة و المناسبة، و إلا فإنّ مع تخلينا عنها فسنكون في وضع و حالة متأخرة و ذليلة.
و يمكن من الكلام فهم أنّ مقارعة الظالم و مقاومة الظلم فرض على الناس، لا حق لهم يجوز لهم التنازل عنه أو تركه، أما في حالة ترك هذا الفرض يتحمل الإنسان آثار هذا الخيار بالذل و الهوان، و يتحول عن رتبته إلى رتب متأخرة بتقدم غيره عليه دون استحقاق.
كما أنّ مقارعة الظلم و الجور بحاجة إلى صبر و صدق و قوة معنوية حتى القضاء عليه و الانتصار.
و له عليه السلام في هذا المقام كلمات كثيرة، ومنها: «رَحِمَ اَللَّهُ اِمْرَءاً رَأَى جَوْراً فَرَدَّهُ»، نهج البلاغة، خطبة 205، «يَوْمُ الْمَظْلُومِ عَلَى الظَّالِمِ أَشَدُّ مِنْ يَوْمِ الظَّالِمِ عَلَى الْمَظْلُومِ»، نهج البلاغة، حكمة 241.
وفي نهج البلاغة ذكر كلام أمير المؤمنين عليه السلام في صفين لما منع و جيشه من الماء ، قال (ع): « قَدِ اسْتَطْعَمُوكُمُ الْقِتَالَ، فَأَقِرُّوا عَلَى مَذَلَّةٍ وَ تَأْخِيرِ مَحَلَّةٍ، أَوْ رَوُّوا السُّيُوفَ مِنَ الدِّمَاءِ تَرْوَوْا مِنَ الْمَاءِ، فَالْمَوْتُ فِي حَيَاتِكُمْ مَقْهُورِينَ، وَ الْحَيَاةُ فِي مَوْتِكُمْ قَاهِرِينَ ». نهج البلاغة، خطبة 51.
وهذا الكلام يتطابق تقريبا مع الحكمة «لنا حق فإن أُعطيناه ..»، فالماء حق من حقوقنا و قد منعونا إياه، فإن بقينا بدون الماء و الحق سنكون أذلاء و سنتأخر مرتبة، و الحل الصحيح هو القتال حتى الحصول على الماء و هو مثال للحقوق، و هكذا كان في وقعة صفين، فبعد هذا الكلام هاجم جيش أمير المؤمنين عليه السلام و سيطروا على الشريعة و أزاحوا جيش معاوية عن الماء.
و هذا المعنى واضح في الأعصار و الأمصار المختلفة و إذا تأمل الإنسان الدول على خارطة العالم فإنّه يجد هذا المعنى ظاهر فإنّ هناك دول قبلت لنفسها التنازل عن حقوقها و أصبحت توابع ذليلة خاضعة لإرادة غيرها بل هي تدفع لأعداء الأمة أموالا في سبيل بقاء سلطتها و انقادت كل الانقياد لقوى الشر العالمية التي تتحكم بمصائرها، و تنازلت عن حقوقها و رضيت بالمقاعد المتأخرة و تخلفت فهي ذليلة صاغرة لا في تقدم علمي و لا في بناء حضاري.
و مع أنّها تمتلك مقومات القوة و الدول القوية و لكنها ليس لها إرادة، و لا تخطيط، و لا طموح ، و لا حتى إيمان صحيح و حقيقي بالله و اليوم الآخر.
ثم أنّها دول ظالمة متخاصمة مع شعوبها تقمعهم في الشوارع، و ترمي بهم في غياهب السجون، و تشردهم في المنافي، و في كل ذلك و هي غافلة أنّ بين بقائها و رحيلها غمضة عين، و الله يمهل و لا يهمل.
و أنّ هناك دول أخرى تعتمد على نفسها و تجتهد في استقلالها و تقاوم الظالمين فيفرضون عليها حصارا مرة و عقوبات أخرى ، و يشنون عليها الحروب و المؤامرات، لكنها مع كل ذلك تتقدم صناعيا و حضاريا و تنتج صناعة و ثقافة و حضارة، ذلك لأنّها أبت على نفسها الركوب على أعجاز الإبل.
كما تشير الحكمة إلى أهمية صيرورة الرئاسة و القيادة بيد المؤمنين لا الأشرار، فحيث يتولى الأشرار و يتسلطون فتقع في أيديهم قوة و قدرة البلد و الزعامة و النفوذ يقومون بجرها إلى مصالحهم الشخصية و تتعطل مصالح النّاس و أوضاعهم و يكثر الفساد و الاعوجاج و تتخلى الدولة عن حقوق النّاس و تتخلف إداريا و حضاريا و تأخذ مقعدها على أعجاز الإبل. و العاقبة للمتقين.
المقال يمثل رأي الكاتب وليس بالضرورة ان يمثل رأي المركز