في اللقاء الأول الذي نظمه مركز الدراسات في العتبة الحسينية المقدسة تشعر بحالة من الذهول وأنت تعانق النور في وجوه الملايين من البشر.. لمست الايمان الحقيقي المبني على القيم الإنسانية والتواضع والعطاء فكادت الروح تخرج من جسدي لتعانق السماء.. أو أنها خرجت للحظات وتنشّقت عطر الورود في جنة الفردوس ومرّت مع الإمام الحسين عليه السلام في نفق العبور الى عالم لا يشبه هذا العالم..
تسمع هتافات الترحيب بالضيوف، كما هتافات الزوار في مواكب منظمة تعكس صورة حقيقية للالتزام والانتماء.
هناك تلامس حقيقة الدمج بين الدين قولا وفعلا، فأنت في حضرة الحسين الذي استشهد في سبيل الإنسانية جمعاء، في سبيل الحق والعدالة والإصلاح.. فترى كيف يتعامل عشاق الحسين مع كل الناس الحاضرين مسلمين ومسيحيين بالجود و الكرم و الضيافة و إطعام الطعام بكافة أنواعه وأشكاله و الاستقبال الراقي والنفوس الطيبة المتواضعة..
هذه المشاهدة الاولى في زيارة الأربعين وعلى امتداد المواكب الحسينية و الحسينيات. قد لا تعبّر عنها الكلمات في صياغتها العلمية فقط، بل يمكن التعبير عن مدرحية هذه الزيارة، فالروحانية ملأت النفس، فحلّقت بها الى الخلود. والقلب الراقد في صدر الألم عاد ليخفق من الصدمة الأولى أمام عظمة هذا المشهد الملحمي الطاهر.
وبالاضافة الى مظاهر الكرم و الجود و العطاء و السخاء ، و الشوق لضيافة الزوار ، و التسابق على خدمتهم و إطعامهم ، والعناية بهم و الاهتمام بهم بشكل لا تجده في مجتمعات أخرى. يمكن الحديث
عن الطقوس والشعائر التي يؤديها الزوار في حضرة الإمام الحسين حيث كانت هناك مسيرة أو موكب عكست صورة أخرى من صور محاكاة الالوهية الوجودية المادية والروحية، وكأنك في حالة اكتمال الدائرة الكونية وانغلاقها على كل العابرين من أجل الصلاة أو اللطم حزنا.. أنا كمسيحي شعرت وكأنني في درب الصلب أرسم الصليب على صدري بعد كل لطمة.. تعيش اللحظة وأنت تتلو صلاة أبانا الذي في السماوات على أنغام صلوا على محمد وآل محمد.. وكأنك ترسم لوحة كونية مكتملة الألوان الانسانية والدخول من خلالها الى عالم الوجود الأكمل. وهذه اللوحة تكتسب أهمية أساسية لفهم قداسة الزيارة الاربعينية ، لأنه ينظر اليها كنظير لأصل سماوي/أرضي؛ حيث يعانق الزائر الأرضي الصورة السماوية التي رُسمت بعظمة الفكر والانسانية والحق والعدالة والانتماء. فلربما استطاع الإمام الحسين هنا ان يحيل كربلاء بيتاً للغفران يأتي إليه الزائر من كل الأديان ومن كل مكان.. في النتيجة أنا أخوض تجربة عميقة في الجدل الديني/الفلسفي والفكري، والتي من خلالها أكتسب معرفة الإدراك الحسي والقدسي الذي يتعدّى التوصيف أو التحليل النظري لعظمة الإمام الحسين ودرجة الايمان التي ترتبط بالادراك الحقيقي لمنزلة الإمام الوجودية في حياة المسلمين والمسيحيين..
هنا دخلت الى الذات المدركة التي بدأت بترويض التفكير والأسئلة والوهم والخرافة والمعجزات.. الى عقد إيماني باطني لا يحتاج الأمر فيه الى السؤال والجواب، بل الى شعور داخلي تحكمه العظمة الروحية والأخلاقية للمكان.. ومن ثم يأتي حكم العقل والمعرفة المكتسبة من هذه الزيارة الأولى مع مركز الدراسات لتبرهن حقيقة هذا الرجل العظيم في شعبه وزواره، وهذا ما ترك في حقيقة ذاتي ومن خلال هذه الزيارة آثارا واقعية في سلوكي ووعيي، وحقيقة ايمانية غيّرت نظرتي ورؤيتي للوجود حيث نشأت في داخلي قناعات جديدة واقعية وليست على سبيل النظر والاستكشاف والتحقيق.. حيث لم أعد أتعامل مع المكان وكأنه سر خفي، بل تحولت إلى زائر مسيحي آمن بالحق والحقيقة، وتركت ذاتي طليقة في مختبر الروح والانتماء الى المكان.
هذه الروحية التي ولدت من رحم العقل لتؤكد على معاني الحق والخير والجمال، لم تكن فلسفة عابرة مجرّدة بالنسبة لي، بل كانت أسلوبا جديدا للعيش وطريقة مثيرة للحياة.. أما مشاهد الحزن والعزاء فعلمتني كيف يكون التسامح والمواساة وعلاج مرض الأنا والتكبر والغرور .
هي فلسفة الزيارة الاربعينية التي قدَّمت نفسها كعلاج لكل الأمراض التي عانيت منها؛ وكان أبرزها مرض الروح والنفس والارهاق الايماني والخوف والخطيئة ومرارة الحياة...
في النتيجة الهدف من زيارتي أن أتنفس الحياة الروحية، ولكن هذا الهدف يتحقق دون أن ينتهي، لأن الله لا ينتهي، والغاية هنا ليست مجرد فكرة أو مبدأ أو عقيدة أو مشروع أو أي شيء آخر، الغاية هي فقط اللقاء بالله القدوس المحب، وتواصل اللقاء معه. تقول القديسة تيريزيا الأفيلية: "كلُّ شيءٍ يزول.. الله يبقى.. الله وحده...