إنّ العنصر الاجتماعي شديد البروز في ثورة الحسين عليه السلام ، ويستطيع الباحث أن يُلاحظه فيها من بدايتها حتّى نهايتها ، ويرى أنّ الحسين عليه السلام ثار من أجل الشعب المسلم : لقد ثار على يزيد باعتباره مُمثّلاً للحكم الاُموي. هذا الحكم الذي جوّع الشعب المسلم ، وصرف أموال هذا الشعب في اللذات والرشا ، وشراء الضمائر وقمع الحركات التحرّرية. هذا الحكم الذي اضطهد المسلمين غير العرب وهدّدهم بالإفناء ، ومزّق وحدة المسلمين العرب ، وبعث بينهم العداوة والبغضاء. هذا الحكم الذي شرّد ذوي العقيدة السياسيّة التي لا تنسجم مع سياسة البيت الأموي ، وقتلهم تحت كلّ حجر ومدر ، وقطع عنهم الأرزاق ، وصادر أموالهم. هذا الحكم الذي شجّع القبيلة على حساب الكيان الاجتماعي للاُمّة المسلمة. هذا الحكم الذي عمل عن طريق مباشر تارة ، وعن طريق غير مباشر تارة اُخرى على تقويض الحس الإنساني في الشعب ، وقتل كلّ نزعة إلى التحرّر بواسطة التخدير الديني الكاذب. كلّ هذا الانحطاط ثار عليه الحسين عليه السلام ، وها هو يقول لأخيه محمد بن الحنفيّة في وصيته له :
«إنّي لم أخرج أشراً ولا بطراً ، ولا مفسداً ولا ظالماً ، وإنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي ، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَنْ ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ ، وهو خير الحاكمين». فالإصلاح في اُمّة جدّه صلى الله عليه وآله هو هدفه من الثورة. وهنا شيء اُريد أن أنبه عليه في قوله : «... فمَنْ قبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ».
إنّه لم يقل : فمَنْ قبلني لشرفي ومنزلتي في المسلمين ، وقرابتي من رسول الله ، وما إلى ذلك ... لم يقل شيئاً من هذا ، إنّ قبوله يكون بقبول الحقّ فهذا داع من دعاته ، وحين يقبل الناس داعي الحقّ فإنّما يقبلونه لما يحمله إليهم من الحقّ والخير لا لنفسه ، وفي هذا تعالٍٍ وتسامٍ عن التفاخر القبلي الذي كان رأس مال كلّ زعيم سياسي أو ديني في عصره عليه السلام.
وظهر العصر الاجتماعي في ثورة الحسين عليه السلام أيضاً حين التقى مع الحرّ بن يزيد الرياحي ، وقد كان ذلك بعد أن علم الحسين عليه السلام بتخاذل أهل العراق عنه بعد بيعتهم له ، وبعد أن انتهى إليه نبأ قتل رسوله وسفيره إليهم مسلم بن عقيل ، وبعد أن تبيّن له ولمَنْ معه المصير الرهيب الذي ينتظرهم جميعاً ، فقد خطب الجيش الذي مع الحرّ قائلاً :«أيّها الناس ، إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله قال : مَنْ رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرام الله ، ناكثاً لعهد الله ، مخالفاً لسنة رسول الله ، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يُغيّر ما عليه بفعل ولا قول كان حقّاً على الله أن يدخله مدخله. ألا وإنّ هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان، وتركوا طاعة الرحمن، وأظهروا الفساد، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلّوا حرام الله ، وحرّموا حلاله ، وأنا أحقّ مَنْ غيّر. وقد أتتني كتبكم ، وقدمت عليّ رسلكم ببيعتكم ، وإنّكم لا تُسلموني ولا تخذلوني ، فإن تممتم عليّ بيعتكم تصيبوا رُشدكم ؛ فإنّي الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله ، نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، فلكم فيّ اُسوة. وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم، وخلعتم بيعتي من أعناقكم، فلعمري ما هي لكم بنُكر ؛ لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمّي مسلم بن عقيل ، والمغرور مَنْ اغترّ بكم ، فحظّكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيّعتم ، ومَنْ نكث فإنّما ينكث على نفسه».
فهو هنا يبيّن لهم أسباب ثورته: إنّها الظلم، والاضطهاد والتجويع، وتحريف الدين ، واختلاس أموال الاُمّة. ثمّ انظر كيف لمّح لهم إلى ما يخشون ، لقد علم أنّهم يخشون الثورة لخشيتهم الحرمان والتشريد ، فهم يؤثرون حياتهم على ما فيها من انحطاط وهوان على محاولة التغيير خشية أن يفشلوا فيعانوا القسوة والضّنك.
لقد علم منهم هذا، فقال لهم: «وأنا الحسين بن علي ، وابن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله».فبيّن لهم مركزه أوّلاً ، ثمّ قال لهم : «نفسي مع أنفسكم ، وأهلي مع أهليكم ، فلكم فيّ اُسوة» فيما قد يحدث من اضطهاد وحرمان. ويقف المتأمّل وقفة اُخرى عند قوله: «وأنا أحقّ من غيّر». فيها تعبير عن شعوره بدوره التأريخي الذي يتحتّم عليه أن يقوم بأدائه.
ومرّة ثالثة حدّث الحسين عليه السلام أهل العراق عن ثورته ومبرراتها ، وكانت خطبته هذه في الساعات الأخيرة التي سبقت اشتباك القتال بينه وبين الجيش الأموي. قالوا : إنّه عليه السلام ركب فرسه فاستنصتهم فلم ينصتوا ، حتّى قال لهم :«ويلكم! ما عليكم أن تنصتوا لي فتسمعوا قولي؟! وإنّما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمَنْ أطاعني كان من المرشدين ، ومَنْ عصاني كان من المهلكين ، وكلّكم عاصٍ لأمري ، غير مستمع لقولي ، فقد مُلئت [بطونكم] من الحرام ، وطُبع على قلوبكم. ويلكم! ألا تنصتون؟ ألا تسمعون؟». فتلاوم أصحاب عمر بن سعد بينهم ، وقالوا :«أنصتوا له. فحمد الله وأثنى عليه وذكره بما هو أهله ، وصلّى على محمد وعلى الملائكة والأنبياء والرسل ، وأبلغ في المقال».
ثمّ قال :«تبّاً لكم أيّها الجماعة وترحاً! أحين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين ، سللتم علينا سيفاً لنا في أيمانكم ، وحششتم علينا ناراً أوقدناها على عدوّنا وعدوّكم ، فأصبحتم إلباً على أوليائكم ، ويداً عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، إلاّ الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش طمعتم فيه ، من غير حدث كان منّا ، ولا رأي تفيّل لنا ـ فهلاّ ـ لكم الويلات ـ إذ كرهتمونا وتركتمونا ، [تجهزتموها] والسيف مشيم ، والجأش طامن ، والرأي لمّا يستحصف ، ولكن أسرعتم إليها كطيرة الدُّبا ، وتداعيتم إليها كتداعي الفراش. فسحقاً لكم يا عبيد الاُمّة ، وشذّاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة الآثام ، ومُحرّفي الكتاب ، ومُطفئي السنن ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومُبيدي عترة الأوصياء ، ومُلحقي العهار بالنسب ، ومُؤذي المؤمنين ، وصُراخ أئمّة المُستهزئين الذين جعلوا القرآن عضين ، ولبئس ما قدّمت لهم أنفسهم وفي العذاب هم خالدون.
وأنتم ابن حرب وأشياعه تعضدون ، وعنّا تخاذلون! أجل والله ، الخذل فيكم معروف ؛ وشجت عليه اُصولكم ، وتأزّرت عليه فروعكم ، وثبتت عليه قلوبكم ، وغشيت صدوركم ، فكنتم أخبث ثمرة شجيّ للناظر ، وأكلة للغاصب ، ألا لعنة الله على الناكثين الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً ، فأنتم والله هم.
ألا وإنّ الدّعيّ ابن الدّعيّ قد ركز بين اثنتين ؛ بين السلّة والذلّة ، وهيهات منّا الذلّة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت وحجور طهرت ، واُنوف حمية ونفوس أبيّة ، لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام ...ألا وإنّي قد أعذرت وأنذرت ، ألا وإنّي زاحف بهذه الاُسرة مع قلّة العدد ، وكثرة العدوّ ، وخذلان الناصر.
ثمّ قال :
فإن نهزِم فهزّامونَ قدماً |
|
وإن نُغلب فغير مُغلّبينا |
وما أن طبّنا جبنٌ ولكن |
|
منايانا ودولة آخرينا |
إذا ما الموتُ رفّعَ عن اُناسٍ |
|
كلاكلَه أناخَ بآخرينا |
فأفنى ذلكمْ سرواتُ قومي |
|
كما أفنى القرونَ الغابرينا |
فلو خلدَ الملوكُ إذاً خلدنا |
|
ولو بقي الكرامُ إذاً بقينا |
فقل للشامتينَ بنا أفيقوا |
|
سيلقى الشامتونَ كما لقينا» |
في هذه الخطبة حدّثهم الحسين عليه السلام عن أنفسهم ، وعن واقعهم ، وعن زيف حياتهم. حدّثهم كيف أنّهم استصرخوه على جلاّديهم ثمّ انكفؤوا مع هؤلاء الجلاّدين عليه. هؤلاء الجلاّدون الذين لم يسيروا فيهم بالعدل وإنّما حملوهم على ارتكاب الحرام في مقابل عيش خسيس. خسيس في نفسه ، قليل دون الكفاية ، خسيس لأنّه يعمل على مدّ الأجل بحياة حقيرة ذليلة ، خسيس باعتباره أجراً لعمل خسيس. وحدّثهم عن مواقفهم المتكرّرة من الحركات الإصلاحية ، إنّهم دائماً يُظهرون العزم على الثورة والرغبة فيها ، يُظهرون العزم على تطوير واقعهم السيِّئ حتّى إذا جدّ الجدّ انقلبوا جلاّدين للثورة بدل أن يكونوا وقوداً لها. حدّثهم عن أعدائه باعتبارهم أعدائهم أيضاً ، ولكنّهم يُزيّفون حياتهم بأيديهم ، يُحاربون محرّريهم ، مَنْ يعلمون أنّهم المحرّرون. مع مَنْ؟ مع أعدائهم مُذلّيهم وظالميهم.
هذه الخطبة ، بهذا الاُسلوب الثائر ، وبما فيها من تقريع ، وبما فيها من فضح لهم ، كانت ملائمة تمام الملاءمة للجو النفسي السائد آنذاك على الجيش الاُموي. إنّ محاربي ذلك الجيش كانوا على علم بمَنْ يُحاربون ، فأراد أن يُشعرهم بفداحة الإثم الذي يُقارفونه ، وعظم الأمر الذي يُحاولونه ، وأراد أن يُسمع المجتمع الإسلامي ـ هذا المجتمع الخاضع ـ صوته المدوّي. وبهذا اللون من البيان جعل الحسين عليه السلام من كلّ مسلم بركاناً مدمّراً على أهبة الانفجار.
تابعونا في الحلقة الثامنة