زين العابدين العبيدي
يمثل الاستقرار الريفي أحد أبرز مظاهر التفاعل الإنساني مع البيئة، حيث يتمثل في تركز السكان بالمناطق الريفية ضمن وحدات سكنية ثابتة، سواء كانت تجمعات متقاربة أو متناثرة، يمارس سكانها أنشطة اقتصادية تعتمد بشكل أساسي على الزراعة وتربية الحيوانات، إلى جانب ذلك، تشمل الأنشطة المكملة كالصيد والرعي، مما يجعل الحياة الريفية مزيجاً من التكامل البيئي والاقتصادي، ومنذ أقدم العصور، كانت القرى الزراعية في العراق نقطة انطلاق للحضارة البشرية، حيث وفرت الأمن والاستقرار، ما جعلها اللبنة الأولى للاستقرار البشري والتنمية.
في محافظة كربلاء، تلعب العوامل الجغرافية دوراً محورياً في تحديد طبيعة وحجم المستقرات الريفية، تحتضن المحافظة(184) قرية زراعية موزعة جغرافياً وفقاً لتوافر الموارد الطبيعية مثل التربة الخصبة والمياه، والتي تتدفق من نهر الفرات والجداول المتفرعة منه. تتركز غالبية هذه القرى في الجهات الشرقية والشمالية الشرقية من المحافظة، حيث تتوافر الشروط البيئية الملائمة لازدهار النشاط الزراعي،وعلى النقيض، تعاني الجهات الغربية والشمالية الغربية من الجفاف والتصحر وندرة الموارد المائية، مما ينعكس سلباً على انتشار القرى واستقرار السكان فيها.
تتميز القرى الزراعية في كربلاء بتنوع أحجامها السكانية، ويمكن تصنيفها إلى ثلاث مراتب حجمية، حيث يعكس كل منها مستوى معيناً من النشاط الزراعي والكثافة السكانية.
1-القرى الزراعية الكبيرة:- التي يزيد عدد سكانها على(1000) نسمة، تعد الفئة الأكثر تأثيراً في المشهد الريفي،بلغ عدد هذه القرى في كربلاء(51 قرية)، موزعة بشكل متفاوت بين الأقضية، يتصدر قضاء الهندية المرتبة الأولى من حيث عدد هذه القرى بنسبة(76%)، يليه قضاء المركز بنسبة( 20%)، ثم قضاء عين التمر بنسبة متواضعة بلغت(4%)،هذه القرى تمثل مراكز حيوية للنشاط الزراعي بفضل الكثافة السكانية التي تسهم في زيادة الإنتاج وتنويع المحاصيل.
2-القرى الزراعية المتوسطة:- التي يتراوح عدد سكانها بين(501 و1000) نسمة، تأتي في المرتبة الثانية من حيث العدد، حيث سجلت المحافظة(67)قرية من هذا النوع، يُظهر قضاء الهندية مرة أخرى تفوقاً ملحوظاً بنسبة(64%)من إجمالي القرى المتوسطة، يليه قضاء المركز بنسبة(30%)، بينما كان نصيب قضاء عين التمر الأدنى بنسبة(6%)، هذا النوع من القرى يعكس مرحلة انتقالية بين التجمعات الكبيرة والصغيرة، حيث يجمع بين التوسع في النشاط الزراعي وتوافر عدد معقول من السكان.
3-القرى الزراعية الصغيرة:- التي يتراوح حجمها السكاني بين( 250 و500 )نسمة، تعبر عن نمط حياة أكثر ارتباطاً بالطبيعة البسيطة، بلغ عدد هذه القرى(66)قرية، تركزت بشكل أكبر في قضاء المركز الذي استحوذ على(48%) منها، يليه قضاء الهندية بنسبة(39%)، وأخيراً قضاء عين التمر بنسبة (12%)،على الرغم من صغر حجمها، فإن هذه القرى تشكل نواة للاستقرار الريفي وتعكس جهود سكانها في مواجهة التحديات البيئية والجغرافية.
الاستقرار الريفي في كربلاء لا يقتصر على الأرقام والإحصاءات، بل يمثل تجسيداً حياً لعلاقة الإنسان ببيئته حيث يعكس هذا التنوع في أحجام القرى وتوزيعها في كربلاء قدرة سكان الريف على التكيف مع المعطيات الطبيعية لتحقيق الاستقرار والأمان.
راجع
د.رياض كاظم الجميلي،كربلاء في منظور الدراسات الحضرية،من إصدارات مركز كربلاء للدراسات والبحوث،2023،ط1،ج1،ص175