بقلم (جنان الهلالي)
في ليلة خذل القمر فيها السماء، كما خذل قلبي في هذا العالم أجمع كنت أقف في نافذة غرفتي المطلة على الشارع المزدحم، أراقبُ ضجيج المارّة خلف الحاجز الزجاجي أمدُّ ببصري لأولئك الجالسين على الأرصفة... حيث يقضي أغلب أقراني سهراتهم الليلية، في شرب الكحول، والآخرون يتناوبون على تمرير أعقاب السكائر والمخدرات... فيما بينهم، وفتيات يرتدن شبه الملابس، يتباهين في اظهار مفاتنهن... عالم غريب وعبثي مليء بالفوضى ضمني إليه دون رغبتي، وحين أصاب بالخيبة وأشعر بالملل؛ تأسرني روحي وتأخذني إلى مسقط رأسي في العراق... هناك في (كربلاء) تلك المدينة التي ولدت فيها ولم أزل أشتاق لأزقتها القديمة حيث مرقد سيد شباب أهل الجنة الحسين، وأخيه العباس (عليهما السلام).
حنين يأسرني إليها كأمواج البحر الهائج إلى السواحل... أتذكر أولئك الصبية وهم يتشحون بالسواد ويتهيأون إلى العزاء ليلة العاشر من محرم... يفترشون الأرض وهم يتسابقون على تقديم مبالغ نقدية من مصروفهم كانوا قد جمعوها طيلة العام بمسمى صندوق خدمة (الإمام المنتظر)، أما نساء المدينة كن يتخذن من السيدة زينب "عليها السلام" مثالاً للعفة والصبر، ويقمن العزاء لفاطمة الزهراء (عليها السلام) مواساةً لها بذلك الشهر لإستشهاد ولدها الحسين وثلة من أصحابه الأبرار في معركة (الطف) الخالدة... تلك الإجابات كانت تخبرني بها والدتي؛ عن يوم العاشر من المحرم الحزين؛ على الرغم لم أكن أبلغ الحلم بعد.
كنت أحب حديثها عن أهل البيت؛ لهذا لم يزل الحنين يشدني كحبل المشيمة للطفل في بطن أمهِ.
أعوام مضت كدهرٍ من الوجع... بعد فراق والدتي؛ حتى بعد أن أصبحت شاباً يافعاً وتخرجت من جامعة الآثار، أرغب باحتضان تلك المرأة وأفتقد حنانها... ونظرة البريق اللامعة في عينيها بعد أن تعلم تخرجي من الجامعة.
لازلت أذكر حبها لأهل البيت وتصميمها على تحفيظي أسماء أحد عشر إماماً حتى أنها كانت ترسم حلقات وتكتب بها تلك الأسماء، وتترك حلقة مفقودة؛ ثم تقول: إنها حلقة الإمام الموعود والمخلص من الظلم والجور لا تنسى ذلك؛ إنه الأمل المرتقب الامام الثاني عشر فمن لا يعرف أمام زمانه مات ميتة جاهلية.
ليتك يا أمي تعرفين... أنا أعيش بفكر يحمل كثيراً من التناقض، وكيف أشعر بكثير من الوجع، وإني أتجرع كأسه وحدي... فالعالم الذي أعيش فيه، فيه شيء من الغربة... حتى وإن كانت كل الوسائل فيه متاحة والحرية جانحة، متمردة؛ ولكنها لا تستهويني، وكأنني أفتقد هويتي، أشتاق للعودة وأن أبحث، وأبحث في ذالك الزقاق أن اعرف أكثر عن تاريخ أهل البيت وآثارهم، أن أتقرب منهم وأشعر برضاهم عني فلابد أن تكون هناك إشارة ما؛ لهذه المتاهة التي أشعر بها الآن.
أحياناً تأسرني الذكريات، وأرحل كطير غادر السرب، أبحث عنها في تلك الأزقة القديمة عندما رافقتها لزيارة مقام الإمام المهدي (عجّل الله فرجه)، يقعُ على الضفّة اليُسرى من نهر الحُسينيّة... في ليلة الخامس عشر من شعبان يوم ولادته... بعد أن أخذنا بعض قطع الفلين وثبتنا عليها الشموع ثم تركناها في مجري النهر وهي محملة بأمانينا ورسائلنا للإمام المهدي لعلها تقع بين يديه الكريمتين.
قالت لي يومها... سيحفظك الله لي ببركة آل البيت ولن نفترق يا بني؛ لا أعرف لمَ إفترقنا؟! فكلما سألت أبي عنها تركني في حيرتي، بإشارات لا أفهم منها إلا سوى أنها: لا تكرر السؤال، بعدها انتقلنا للعيش هنا في كاليفورنيا... كنت حينها لم أبلغ السادسة من العمر وبسبب حالات الاكتئاب أصيب والدي بجلطة دماغية أقعدته مشلولاً، وأصبح فيما بعد تحت رحمة زوجته الأجنبية، قالت لي مسبقاً أنه كان يتعاطى المخدرات وأصبح مدمناً... بعدها أصابني الملل ابتلعتْ خذلان الإجابة وصمت ولم أسأل فيما بعد عنها، فتلك المرأة الشهباء لا تعرف أكثر عن أبي؛ سوى أنه تزوجها من أجل الحصول على الجنسية الأمريكية.
ها هو العام مضى بسرعة على وفاة والدي، بدأت أشعر بالوحدة القاتلة، حتى إقترح أحد زملائي ذات ليلة الذهاب إلى حسينية صغيرة تابعة لإحدى الهيئات في نهاية المقاطعة، كانت تلك الليلة تصادف ليلة العاشر من محرم، لا أعرف ذلك الشعور الغريب الذي انتابني؛ وكأن هاجساً يقودني إلى ارتداءِ ملابسِ الحُزن، وقلبي يتفجر شوقاً لسماع محاضرة الخطيب، وبعد أن ذهبنا وأتم الخطيب قراءته ورثائه على الإمام الحسين قرأ دعاء الفرج... هنا أخذت دموعي تنهمر ورحت أسأل نفسي، هل هنا هو مكاني؟ لقد إبتعدت عن الامام المنتظر بعد أن غرّتني الدنيا بمفاتنها... لقد دنوت منها وهي رمتني جاحدةً إلى الخذلان، والإبتعاد عن أمور ديني.
هل حقا أنا أنتمي لهذا العالم القاسي... ولهذه الدنيا اللعينة بعبيدها؟ ما هذا الخراب الذي بداخلي، كيف صرت ميتاً وأنا على قيد الحياة؟ ماذا أفعل هنا؟ ولأجل ماذا؟ ربّت صاحبي على كتفي قائلاً:
- لا ضرر عليك يا صديقي، أراك تختنق في أنفاسك، حتى دمعك الغزير كمطر الشتاء، قد خطّ من ملوحته طريقاً على وجنتيك من لهيب الغفلة.
أجبتهُ مخنوقاً:
- خوف ما بدأ يتسلل لروحي الضائعة منذ تسع عشر عاماً... لم أسأل عن والدتي بعد أن هجرتنا بسبب اعتراضها على الهجرة، فالحرية هنا كالفرس الجامح، القليل يستطع مسك لجامه دون خسائر... كانت تخشى عَليّ من هذا المجتمع ولكن أبي لم يعطها العذر؛ أخذني وتركها تكابد ألم الفراق.
نظر إلي بنظرة الشفقة والعطف الذي إفتقدته منذ سنين خَلت ثم قال:
- إن مولاك منشغل بك... منشغل بردّك إليه... منشغل بفتح عينك عليه... إنه لا يتركك طرفة عين، وإلا لما أرسل جنده من الألم لينتشلك من وحل غفلتك... كان ليتركك غافلاً، لاهياً، لاهثاً وراء لذائذك وأغدق عليك الدنيا كلها حتى تموت كجيفة في هذه الدنيا الفانية.
وأخذت أردد عليه العودة... أنا لا أنتمي سوى لذلك المكان، سأزور قبرها إذا كانت قد توفيت، أو احتضنها لو كانت حية.
الآن أدركت حينما قالت لي والدتي وأنا أضع الحلقة الأخيرة للقلادة بإسم الامام المهدي: إن للحسين حرارة في قلوب المؤمنين، وإن الله يهدي العبد بَحبهِ لأهل البيت، ومتى ما صلحت محبته لهم صلحت باقي أعماله؛ فهم سفينة النجاة والانسان بالفطرة عندما يحب يسعى لإرضاء من أحب... لم أزل أحتفظ بآخر رسالة من جدي وعنوان الدار سأحجز على أول رحلة للعودة.
في تلك الصحوة الربانية التي دلّتني على الطريق... انقشع الغمام المحيط بالقمر، وقلت لصاحبي بكلمات تتقطعها العبرة:
- أنا كنت الإبن الضال، لقد إقترفت الكثير من المعاصي وضاع في طريق التيه الكثير من أيامي.
ثم اقتربت ومسكت يدهُ بعد أن خرجنا من الجامع وقلت:
- يجب أن أعود إنه ليس مكاني... يجب أن لا أبقى أسيراً لهذه الدنيا الفانية، فأنا أنتمي لذلك العالم القدسي.
كانت رحلة الطائرة طويلة... ولكن بعد وصولي، رؤية الأضرحة المقدسة أجلت غبار التيه والتعب عني وبعد أن تبركت بزيارة الأضرحة المقدسة، إستقليت سيارة أجرة وذهبت لبيت جدي، ولكن فيما يبدو قد سبقتني الأقدار وخطفتهُ، ولكن احتضنتني رائحة بطعم الجنة وبعد عناق طويل، وأحضان افتقدتها في بلاد الغربة قالت وبريقاً يتلألأ في عينيها:
هل بعدك تنسى الاسم في الحلقة المفقودة؟!.