بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله ربّ العالمين ، و صلّ اللهم على محمد و آله الطاهرين
إنّ إلقاء موضوع ما على مجموعة من الناس و إن قلّوا متفرع أو ينبغي أن يكون متفرعا على معرفة المتحدث بكل جوانب الموضوع أو بغالبيتها التي تتعلق بالمخاطبين أو المتلقين ، و كلما أحاط علما بجوانب الموضوع أصبح أكثر إفادة ، كما سيكون قليل الفائدة مع قلة أو عدم الإحاطة بالموضوع الذي ينوي إلقاءه.
و اختيار الموضوع المناسب و تفاصيله للمخاطبين يقع تحت مهارة الخطيب أو المخاطِب أو المتحدّث أو الملقي أو المتكلّم ، إما بنفسه أو بمساعدة الغير، من أصدقاء أو مستشارين أو فريق عمل كما في بعض المواقع الإدارية و الاجتماعية، و بالنسبة للمبلغ فقد يستعين بأهل المنطقة التبليغية أو المؤسسات التبليغية و خبرته.
و اختيار الموضوع أيضا مرتبط ارتباطا وثيقا بالزمان و المكان و الظروف الخاصة للمنطقة التبليغية التي سيتحدث فيها بموضوعه.
و المبلّغ الديني و إن كان تحكمه و تقيّده أسس و حدود عامة و لا يمكن تجاوزها كما في بيان العقائد و الحلال و الحرام ، إلا أنّ موضوع الإلقاء يتغير من زمان إلى آخر ، ومن مكان إلى آخر، فمثلا كثير من المواضيع التي هي مناسبة للإلقاء في المدن ليست مناسبة و ذات كثير فائدة في القرى البعيدة عن المدينة.
و كذا كثير من المواضيع الحالية لم يكن لها وجود قبل التمدد العلمي للمعلومات و وسائل ذلك التمدد، فقد تولدت كثير من المسائل كنتاج لثورة الاتصالات و تطورها ، فمثلا برامج التواصل الاجتماعي أو التقاطع الاجتماعي أخذت حيزا كبيرا في تناولها من قبل المبلّغين من جهة ، و من الاستفادة منها في التبليغ من جهة ثانية.
و بشكل عام لابد للمبلّغ أو الخطيب أن يكون لديه أهمية في تنظيم و ترتيب موضوع خطابته و تفصيل موضوعه، تتعلق بمناسبة الموضوع نفسه ، و نوع المخاطَبين ، و الزمان و المكان، و عامة الظروف المحيطة بالفعالية التي ينوي القيام بها من محاضرة أو مجلس أو حديث أو درس.
و كلما كان موفقا في اختياراته و التوفيق بين العناصر اللازمة لموضوعه يكون التبليغ أكثر وقعا في النفوس و تأثيرا عليها، و يكون المخاطَبين أكثر فائدة و نفعا.
و يمكن تقسيم المطالب إلى ثلاثة ، أولها عناصر ما قبل تهيئة الموضوع و محتواه من ترتيب و تفصيل، و ثانيها عناصر مهمة في اختيار الموضوع و المحتوى، و ثالثها ملاحظات تتعلق بالموضوع و ما يتضمنه.
ابتداء في ذكر بعض العناصر السابقة لترتيب الموضوع و قبل تحضيره ، و التي لها أثرها في جودة الموضوع ، و حسن ترتيبه .
التفرغ مهم للخطيب لتحضير مواضيعه فيحتاج و خاصة أثناء المواسم من أخذ الوقت الكافي، أو إجازات يتفرغ فيها للتبليغ فلا يزاحمه شيء، و يعطي وقته لتهيئة الموضوع مما يشحن محتوى الموضوع بالعلم و المعلومات ، و يؤثر ذلك تأثيرا مباشرا على وضعه النفسي أثناء الإلقاء ، فلا يكون مضطربا لسوء في التحضير أو لضيق في الوقت ، و يعطي الموضوع حقه و المحتوى نصيبه.
فالتفرغ ضروري للقيام بالعمل بأكمل وجه و افضل صورة ، و بكفاءة عالية و جدارة ، و كل ذلك يحتاج إلى وقت متسع يتفرغ فيه المبلّغ، فإذا ضاق الوقت على المبلّغ قلت مساحة العناية بالموضوع و جودته ، فالتفرغ و الوقت الكافي ضروري في شحن المحتوى.
و في تحضير المتحدث أو المبلّغ لموضوعه يراعي في البحث جوانبه المتعددة ، و عدم الاقتصار بزاوية منه ، و إن تطلب ذلك عدة محاضرات أو مجالس، و لابد من اشتماله للمعلومات الأساسية الضرورية ، كما تحتاج المعلومات نفسها إلى تحديث و مراجعة و أن تكون خالية من الأخطاء ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
و لابد أن ينتبه المبلّغ أنّ مواضيعه و مجلسه لغاية و هدف نبيل و ذو فائدة ، و ليس ترفا ، أو تهريجا ، أو تجارة، و هذا يلزمه بالتحضير الجدّي لمواضيع ذات فائدة للمخاطَبين و اهتماماتهم، و قضاياهم و مشكلاتهم.
فالتفرغ و التحضير ضروري للخطيب قبل صعود المنبر الخطابي، و إذا ما أدرك المبلّغ أنّ محتوى الموضوع ليس جيدا أو كافيا، أو ليس مفيدا للمخاطَبين، أو به خللا لا يفي بالهدف الذي يريد إيصاله إلى المخاطَبين، فالأفضل أن يستدرك ذلك إما بإكماله إلى الأحسن ، أو بالعدول عنه إلى ما هو أنسب و اكمل دون المجازفة بطرحه.
كما أنّ من الضروري للمبلّغ معرفة عصره و زمانه الذي هو فيه ، و أهل زمانه و المعاصرين له، فالحياة في تطور دائم و نموّ مستمر، و تجدد أفكار و سعة حياة، و علوم تنتشر ، فهذه المعرفة و المتابعة مهمة للخطيب و كذا المخاطَبين، و يكون الخطيب بها أقرب إلى المخاطَبين أو المتلقين، و أكثر فهما و إدراكا لواقعهم ، و أوفق في اختيار الموضوع ، و أكمل في ترتيب أفكار و معلومات موضوعه، و بهذه المعرفة تتوسع مدارك أبحاثه ، و ترتيب موضوعاته ، و يكون اقرب في موضوعاته إلى متطلبات و حاجيات مخاطبيه.
و في الروايات عن أئمتنا عليهم السلام إشارات إلى هذا أيضا ، كقول أمير المؤمنين عليه السلام « حَسْبُ اَلْمَرْءِ .. مِنْ عِرْفَانِهِ عِلْمُهُ بِزَمَانِهِ»[1].
و عن الإمام الصادق عليه السلام «العالِمُ بِزَمانِهِ ، لا تَهجُمُ علَيهِ اللَّوابِسُ»[2].
و عن الإمام الصادق عليه السلام «فِي حِكْمَةِ آلِ دَاوُدَ عَلَى اَلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ عَارِفاً بِزَمَانِهِ ..»[3].
و قول الإمام الحسين عليه السلام «وَ مِنْ دَلاَئِلِ اَلْعَالِمِ اِنْتِقَادُهُ لِحَدِيثِهِ وَ عِلْمُهُ بِحَقَائِقِ فُنُونِ اَلنَّظَرِ»[4].
فهذه الروايات تؤكد بقوة على أهمية معرفة الإنسان عامة بزمانه و عصره ، و تدعو إلى البصيرة و الوعي في التعامل مع عصره و معاصريه، و تتأكّد في المبلّغ الذي يخاطب النّاس و يرشدهم.
حتى يكون الموضوع مكتمل و يفي بالغرض الذي من أجله يقوم المبلّغ بتبليغه ينبغي أن يكون للمبلّغ نفسه القدرة العلمية و الفكرية ، و لديه أدوات تحضير المحتوى الشامل و القوي مرجو الفائدة، و هذا يتضمن ان يكون المبلّغ ذو قدرة ذاتية للتحضير ، و أن يكون المحتوى يشمل عددا كبيرا من العلوم و فنون رئيسية أو فرعية ، فالمحتوى يتضمن علوم شرعية و حفظ آيات قرآنية و روايات، و آداب، كما يتضمن معلومات و حقائق و قوانين و قواعد عامة و مفاهيم و مصطلحات، و معرفة عامة على كثير من العلوم، و يحتاج المبلّغ أدوات تلك العلوم من كتب و موسوعات و أجهزة بحث في العصر الحالي.
المخاطَبون لهم حقوق على المتحدّث أو الخطيب كما له حقوق عليهم، و معرفة هذه الحقوق و الواجبات مفيدة للخطيب و المخاطَبين، و أحد أهم تلك الحقوق هو معرفة مصادر المعلومات عامة ، و إمكانية سؤال المبلّغ أو الخطيب عن مصادره في الموضوع أو البحث ، كما أنّه من حقهم مناقشته و محاورته عمّا يطرح من مواضيع و جزئيات، فإذا ما سأل أحد المخاطبين المبلّغَ عن مصادره و منبع استقصاء معلوماته أو ناقشه في فكرة طرحها فللمبلّغ الإجابة وعدم الانزعاج من تلك الأسئلة ، و البناء على حسن الظن.
و في بعض الحالات يُفضل للخطيب ذكر المصادر التي استند إليها خاصة حين ذكر بعض الروايات أو الأحداث التي تكون فوق تصورهم و إن كان بعضهم لديه قصور في فهمها، و كذلك حين ذكر المعجزات و الكرامات، فذكر المصادر في هذه الحالات يكون أصوب للخطيب و أبعد من أن يُسأل عنها لاحقا، و أكثر مصداقية له و أبعد من أن يُتهم بتحريف أو تأليف أو خيال!.
و من الحقوق تحضير الخطيب لموضوعاته و تقديمها بشكل جيد للمخاطَبين و الاعتناء بها ، و عدم الاستهتار بهم بتقديم مواضيع ارتجالية أو أخرى غير نافعة ، أو حشو الحديث بكلام يغلب عليه الثرثرة أو المبالغات بل بحديث يحترم به مخاطبيه و عقولهم.
كما إنّ من حق الخطيب حسن الاستماع و الإصغاء إليه، و المحافظة على الهدوء، و عليه فإنّ استعمال أجهزة الهاتف النقّال بالاتصالات أو استعمال برامجها أثناء حديث الخطيب يعدّ خرقا لحقوق الخطيب.
إنّ معرفة الخطيب لعظيم مسؤولياته يحفزه و يشجعه لمزيد من الاهتمام و الرعاية بها، و ليعلم و يتيقن أنّ هذه المجالس و المحاضرات و الحديث فيها ذو مسؤولية عظمى ، و كلامه و حديثه قد يهدي به أناس أو قد يضل به أناس، و هو مسؤول عن كل كلمة يقولها أو ينطق بها على المنبر أو كرسي الحديث ، فلا يقول إلا حقا ، و لا ينطق إلا صدقا، بل بالدقة يشمل ذلك حركاته و سكناته أيضا.
كما و يعلم أنّه أحد عناصر المحيط الاجتماعي و مواقع التغيير فلا يستهين بموقعه و مسؤوليته، و هذه الأيام و خاصة في بعض المجتمعات حيث ينشغل الآباء و قد تنشغل معهم الأمهات عن تربية الأولاد يتضاعف عمل المبلّغ و الخطيب حيث تقع جزء من تربية الأولاد و الجيل الجديد على مسؤوليته، و خلق بيئة اجتماعية لهم بيد الخطباء و المراكز الإسلامية.
و مع معرفة الخطيب بهذه المسؤوليات يفترض أن يكون أكثر اهتماما بموضوعاته ، و أكثر عناية بالمخاطَبين.
و ما ينطبق هنا على الخطيب ينطبق أيضا على المراكز الإسلامية فإنها أيضا ذات مسؤولية في تكوين الجو و المحيط الاجتماعي الصالح ، و لها مسؤولية في التربية و الإصلاح و التثقيف.
يحرص الخطيب و يجتهد في تهيئة مواضيعه بأفضل إتقان و أحسن محتوى كل ذلك لإفادة المخاطَبين الذين هم هدفه و غرضه ، و ليس ذلك لإظهار قدرة المتحدث الذاتية و علومه، أو إظهار تميّز الخطيب و المحاضر أو إظهار مهارته، و ليس لإثارة الإعجاب به ، و إنما يلقي المتحدث موضوعا لفائدة المخاطَب أو المخاطَبين و المتلقين، فسعيه و اجتهاده لمنفعة و فائدة المخاطبين موضوع التبليغ و إن أدى بالضرورة إلى تنمية مواهب الخطيب و تطور خطابته.
و في كيفية انتخاب أو اختيار الموضوع أو الموضوعات من بين عشرات العناوين في الذهن ، و الآلاف في الواقع الخارجي ، ينتبه المبلّغ إلى عدة عناصر أو أصول ينبغي مراعاتها ، و وضعها في عين الاعتبار، منها:
حين يقرر المتحدث أن يطرح موضوعا مفيدا للمخاطبين فإنّه يريد توصيل رسالة لهم و هي الغاية أو الهدف الذي يريد تحققه، وهو معنى التبليغ أي الإيصال و الوصول، و هنا إيصال التعاليم و الإرشادات الإسلاميّة إلى النّاس، و هدايتهم و توعيتهم ، و الهدف قد يكون تعليمهم أحكاما فقهية أو عقائدية ، أو زيادة إيمانهم ، أو وحدتهم، زيادة الوعي و البصيرة لهم، أو إرشادهم إلى مشاكل اجتماعية و حلها، أو التنبيه لمشاكل اجتماعية ملحة، أو تنبيههم لبعض الأخطاء الاجتماعية، أو إصلاح ذات البين، أو غيرها. ولابد في كل هذا أن يكون الموضوع مفيدا لاحتياجات المجتمع التبليغي و المخاطبين.
الانتباه إلى هذا المعنى من الانسجام و التوافق بين طرح الموضوع و السعي في تحقق هدفه ، يلفت المبلّغ إلى عدم التشتت في الأفكار، و يجعله أكثر تركيزا في موضوعه لتحقيق الغاية من حديثه، أو الغرض أو الهدف منه. كما يجعل المخاطَبين أكثر تركيزا و اهتماما و إنصاتا.
و إجمالا لابد للمبلغ أن تكون له غاية يريد إيصالها ، و فائدة مرجوة للمخاطَبين حين المشاهدة أو الاستماع، يتطلب هذا محتوى جيد التحضير و التهيئة لتحصيل الفائدة و المنفعة المرجوة ، وهذا المحتوى مرتبط مباشرة بالهدف أو الغاية التي يريدها الخطيب، و هي غاية إرشادية تبليغية ، كهداية الناس و تعليمهم.
و الهدف الأصل و الغاية الأساس هو رضا الله سبحانه و تعالى و العمل ضمن حدود شريعته دون تجاوزها، فيجتنب المبلّغ رضا الآخرين في غير طاعة الله، من أصحاب المجالس أو عناصر نافذة او تنفيدية، أو مقدمات لجلب انتباه فئة من المخاطبين كالتجار أو متعهدي المجلس أو غيرهم.
تحديد الموضوع أمر أساسي في الخطابة ، و كذلك وحدة الموضوع، و التفرع البنّاء على العنوان الرئيسي للموضوع بذكر مجموعة من التفاصيل المهمة من أبرز صفات الخطيب الناجح و الموفق، و يقابله الانتقال من موضوع إلى آخر و من فكرة إلى أخرى ، مما يسبب تشتتا و ضعفا.
التركيز على موضوع واحد و إشباعه و الخروج منه بنتائج مفيدة للمخاطبين أفضل من التنقل أو القفز في موضوعات بعناوين متعددة.
و إذا ماكان المخاطَبين بحاجة إلى عدة مسائل و فروع فإنّ ذلك متاح بعد المجلس الرئيسي حيث يتم بتخصيص المبلّغ وقتا إضافيا بعد المحاضرة او المجلس على شكل أجوبة المسائل أو حوار أو مناقشة، و خاصة مع فئة الشباب.
و منها ما يتعلق بالمخاطَبين في حضورهم ، فلابد من تناسب و تناسق بين الموضوع و المخاطَبين الحاضرين، أوضاعهم، نوعياتهم، قرويون، مدنيون ، من خلفيات دينية أو مذهبية مختلفة ، حيث يكون تناسب بين الموضوع و المخاطَبين ، وحتى أعداد الحاضرين فإنّ الخطابة و الموضوع لعشرة أشخاص يختلف عن الخطابة و الموضوع لجماهير غفيرة، في نوعيته و رسالته و حماسته و سعته.
و كذا في نوعية الحضور إن كانوا أساتذة جامعة ، أو معلمين ، أو تجار أو فلاحين، أو كان في جامعة أو قرية ، أو مسجد و حسينية ، أو مقاتلين في جبهة قتال، أو مجموعة من السجناء.
أو إلى مجموعة مذهبية و دينية مختلفة ، أو إلى مجموعة من النشطاء ، أو تبليغ في رحلة دينية ثقافية ، فإنّ كل ذلك موضع انتباه للخطيب و المتحدّث لابد له من ملاحظته ليكون أكثر توفيقا في اختيار موضوعه ، و المعلومات التي يقدمها.
و كذلك التوافق بين الموضوع و قدرات الحاضرين بحيث يكون موضوع المبلّغ متناسبا مع قدرة المخاطبين العلمية و الفكرية لضمان متابعة المخاطَبين ، و لحصول نتائج مرضية لتلك المحاضرة أو المجلس.
معرفة المخاطَبين و قدراتهم يتحدد عليه نوعية المواضيع المطروحة لاحقا ، و قد تكون آرائهم طريقا لتحسين أداء المبلّغ و تطور موضوعه بشكل أفضل.
فالمبلّغ بحاجة إلى معرفة إجمالية عن مخاطبيه في مستوى ثقافتهم و مقدار علومهم و اهتماماتهم التي تتعلق بالموضوع.
أبرز أصول الموضوع هو معرفة المناسبة التي سينشئ المبلّغ موضوعه على أساسها، و يرتب أفكاره و معلوماته بناء عليها، و يجمع شواهدها و أدلتها، فصلب الموضوع مبني على معرفة المناسبة و أجوائها، و إذا انخرم هذا الأصل سيصبح المخاطَبين و كذا المبلّغ في مكان و أجواء أخرى.
هل المناسبة سعيدة أو حزينة ، هل هي أفراح أو أتراح، هل تحتاج إلى موضوع خاص بجزئياته أو موضوع عام ضمن المناسبة ، فمجالس عاشوراء تختلف عن مجالس شهر رمضان ، و مجالس الفاتحة تختلف عن مجالس الفرح، و هكذا ضرورة أن يعرف الخطيب أين هو ذاهب ؟ و أي مناسبة ستكون؟ و بايّ سعة يتحرك في موضوعه ؟!
تناسب محتوى المحاضرة أو المجلس الحسيني للخطيب مع المناسبة بنوع تناسب و ارتباط و إن كان بعيدا ضروريا و مهما، و عدم وجود ذلك التناسب يعتبر خدشة قوية ضد الخطيب و موضوعه، و قد يكون لها انعكاس سلبي كبير عند بعض المجتمعات طبقا لأعرافها.
معرفة الوقت المتاح تجعل الخطيب أو المبلّغ أكثر لملمة و تجميعا و تركيزا لموضوعه ، بحيث يلخص معلوماته بمقدار الوقت المتاح و ينثرها عليه دون توتر أو إجهاد نفسي يؤثر على قوة تركيزه في الموضوع و أفكاره الرئيسية و أجزاء موضوعه، فطرح الموضوع يتناسب و يتوافق مع الوقت المتاح، بحيث يحافظ على النتيجة و الأثر من طرح الموضوع دون إخلال، و كذا يحافظ على إبقاء انتباه و انشداد المخاطَبين دون ملل.
و هذا ليس بالسهل جدا، و ليس ارتجاليا ، و إنّما يكون قبل التحدث يختار موضوعه و أفكاره و يناسبها بمحدودية الوقت ، وهي من الأمور المهمة و تساعد على زيادة تركيز المخاطَبين و يخفف على الخطيب جهودا إضافية.
ينبغي أن يكون محتوى المجلس أو المحاضرة يتناسب مع الوقت المحدد المتفق عليه، دون التطويل الزائد أو الاختصار الشديد، و تجميع كل العناصر الرئيسية الضرورية للمحاضرة و طرحها للمخاطَبين في الوقت المحدد ، أو بزيادة أو نقصان طفيف خارج عن تحكم الخطيب.
و لا يتناسب كثرة المعلومات مع استيعاب المخاطَبين، فكلما كانت المعلومات كثيرة و الوقت طويل قلّ استيعاب المخاطَبين وخاصة في الموضوعات الفكرية و العقائدية، و ليس ذلك في الأسلوب القصصي الذي يجلب المخاطَبين، و مع هذا فإنّ التطويل مضر بالانتباه و الانشداد للمخاطَب و الخطيب و خاصة في هذا الزمان.
و النكتة المهمة هي إنّ ختم المجلس في الوقت المتناسب المقبول يرضي كل المخاطَبين بقسميهما، وهما من يريد زيادة مدة المجلس و من يريد الانتهاء، فمن يريد الزيادة يقتنع بهذا الختم مع رغبة و شوق للمزيد، ومن يرغب في الانتهاء يقبل هذا الختم لأنه لا يتحمل أكثر من هذا المقدار، بينما التطويل الكثير يفسد على الخطيب الراغبين في زيادة مدة الحديث و الراغبين في الانتهاء.
أحد عناصر النجاح في التبليغ الانتباه الشديد للزمان، و ترتيب الموضوع بأفكاره و معلوماته ثم طرحها على المخاطبين أو المتلقين.
و تظهر معرفة و أهمية الزمان في المقارنة بين المواضيع المطروحة في ليالي شهر رمضان و تلك التي تطرح في ليالي عاشوراء و شهر محرم، و هذا ينطبق على الأزمنة التي هي مرتبطة بمناسبات تحكمها و لا يمكن للخطيب أيا كان أن يخرج من حدودها تماما ، نعم للخطيب أن يتوسع بأفكار جانبية و داعمة دون الخروج تماما من أصل الموضوع الذي يرتبط بالزمان، و هكذا في بقية الشهور و المناسبات.
كما أنّ زمان المحاضرة و المجلس ضمن أزمنة اليوم الواحد أي صبحا أو ظهرا أو ليلا ، له مدخلية جزئية في تشكيل محتوى المجلس، و مثل هذه تظهر في الرحلات الثقافية الترفيهية التي تشكل المحاضرة أو الكلمة القصيرة بعد الصلاة قسما من برامجها، فإنّ الكلمة بعد صلاة الصبح تختلف عن كلمة الظهر و كلمة الليل نتيجة للزمان الملقى فيه الكلمة و مزاج المخاطَبين حينها و استعدادهم الجسميّ و العقلي.
العنصر الشقيق للزمان هو المكان ، أي مكان المحاضرة أو المجلس أو الفعالية ، فهو أيضا له مدخلية في اختيار الموضوع و محتواه و ترتيبه، فمكان و ميدان التبليغ يتصل بنوع اتصال مع تهيئة الموضوع و مضمونه، و ترتيب الأفكار فيه بل هو أحد مفاتيحه الأولية.
بعض الأماكن تحتاج دروسا كثيرة في تفهيم حقوق النّاس و رعايتها ، بينما تحتاج بعض المناطق الاجتماعية خطابات مكثفة حول قضايا الثأر و الانتقام وهي مناطق العشائر.
بينما بعض الأمكنة مهيأة للحديث حول صلاة الليل و النوافل ، و الصوم المستحب، و العبادات و الطاعات المستحبة.
كما يحتاج التبليع و زيارة المستشفيات و السجون لنوع خاص يتناسب معهما.
إنّ من أكثر الموضوعات اهتماما و انتباها للمخاطَبين هي تلك التي تمس مباشرة أهالي المنطقة التبليغية من قضاياهم و حوائجهم ، و بعض مشاكلهم، و يشعرون بها بواقعية أكبر للخطاب، و هذه القضايا تختلف أهمية من منطقة إلى
أخرى.
و كمثال فإنّ موضوعات تنبيه النّاس و تحذيرهم من الحروب الناعمة في استخدام وسائل للتأثير على المجتمع الاسلامي لخدمة العدوّ بطريقة خفية ناعمة دون اسلحة فتّاكة من المواضيع المهمة في هذه الأزمنة التي يحتاجها المجتمع.
و مثال آخر في هذه الأيام حيث أخذ التطور العلمي في الاتصالات تقدما واضحا و مؤثرا على المخاطَبين، و أدى بشكل ملفت إلى سحب الشباب إلى وسائل التواصل الاجتماعي أو التقاطع الاجتماعي أو التدابر الاجتماعي فإنّ طرح هذا الموضوع بجدّية و تقديم النصائح و محاولة علاج التصدع الأسري و الاجتماعي الحاصل من الإكثار و الإدمان من استخدام هذه البرامج يعتبر أحد قضايا اهتمامات المجتمع و مؤثرة بالنسبة للآباء و الأسرة.
و كذلك في إدمان استعمال أجهزة الهاتف النقّال، و الانشغال طول الوقت بها، فهذه قضية مهمة تحتاج إلى تنبيه في استعمالها، و الانتباه للاختراقات التي قد تحصل لصاحبها مما يؤثر عليه و على محيطه سلبا.
و هذا من معرفة الخطيب بزمانه ، فمراعات المحاضر أو المبلّغ لزمانه يقتضي قسما من المواضيع تتعلق بهموم ذلك الزمن أو تلك المرحلة و قضاياها ، و هي بحاجة إلى كثير من الارشادات و التنبيهات، وهذا الموضوع لم يكن يمثل مشكلة سابقة ، و لم يكن قبل عشرين سنة سابقة مطروحا أو متداولا.
و الشباب يحتاجون إلى طرح موضوعات تناسب اهتمامهم ، كضرورة الرياضة من جهة و عدم استغراقها للوقت من جهة أخرى، و مواضيع تتعلق بالمدارس و الجامعات و حسن اختيار الفرع المناسب للشاب المناسب، و آثار الفراغ في الوقت على نفسية و روحية الشباب.
بعض الاهتمامات تتعلق بالتراث من آداب و علوم و فنون و عادات ، فلها قيمة كبيرة عند أصحابها، وهي تنتقل من جيل إلى جيل.
بعض الأماكن العلمية و الجامعات تهتم بالتقدم العلمي و العلوم عامة ، و مدى تقدمها ، و لها متحدثيها.
و قد يطرح الخطيب مواضيع مثيرة و جالبة للجمهور و موضع رغبتهم لكن ليس ترفيها أو تسلية و إنّما للاستفادة و المنفعة من تلك المواضيع ، و لأنّها ستكون موضع اهتمام للمخاطَبين.
و قدر الإمكان يسعى و يجدّ الخطيب أو المبلّغ إلى جذب المخاطَبين ، وهذا يكون بطريقته في الحديث و المعلومات و ترتيبها ، و طريقة خطابته ، و كذلك بالقدرة على تقديم محتوى نافع و مفيد للمخاطَبين، كل ذلك يكون في مصلحة الخطيب و المجتمع .
و مع تناسب محتوى الموضوع مع اهتمامات المخاطَبين ، و مع خبرة الخطيب و تكرر زياراته على المنطقة التبليغية هذه فإنّه يستفيد من تجربته السابقة في معرفة احتياجات أهل المنطقة المتعددة الفكرية و الثقافية و اهتماماتهم ، إضافة إلى الأصول و الأسس العقائدية و الأخلاقية.
أحد وظائف الخطيب الاهتمام بالقضايا المعاصرة ، اجتماعية كانت أو سياسية، و إعطائها حقها و عدم إهمالها، فإنّ تلك ذات أهمية قصوى للمخاطَبين، الذين لديهم استعداد أن يسمعوا ساعة في خطبة الجمعة للخطيب، أو مجلس عزاء يقارب الساعة او أقل، و لكن لا استعداد لهم في نصف ذلك الوقت في أيّ مكان آخر، هذا الاستعداد و التهيؤ فرصة للخطيب ينبغي اغتنامها لتسليط الضوء على القضايا المعاصرة التي تهمّ الاسلام و المسلمين، و يعني ذلك عدم الاقتصار على القضايا الدينية أو التاريخية مع أهميتهما.
الخطيب او المبلّغ الناعي بعد الشهرة قد تخف رغبته و قدرته على التحضير الجديّ و تقديم الموضوع النافع المفيد ، و عدد من الخطباء بعد شهرتهم قد لا يقومون بتحضير الموضوع أساسا و إنّما يرتجلون ارتجالا ، و هذا خطأ فاحش و اشتباه كبير، فإنّ قيمة المحاضر أو الخطيب بقدر نفعه و مقدار الاستفادة منه ، و إذا قلّ النفع قلّت قيمة المجلس الحقيقية بالنسبة للموضوع ، و تبقى قيمة المجلس الاجتماعية في تجمع الناس و أنسهم ، و تلاقيهم ، و الصلات و الروابط بينهم ، و لكن تلك فوائد اجتماعية خارجة عن الموضوع و محتواه و الخطيب و فائدته، على أنّ جودة الخطيب تزيد من القيمة الاجتماعية للتجمعات و فوائدها.
يستطيع الخطيب أو المحاضر في المجالس المتتالية و المستمرة كليالي شهر رمضان ، و ايام عاشوراء أن ينشر عناوين محاضراته أو مجالسه مسبقا ، كما تفعل بعض الحسينيات في البحرين في مجالس عاشوراء، و يمكن للمخاطَب أن يحضر المجلس الذي يهتم بمضمون موضوعه ، كما يمكن للمخاطَبين أن يتهيؤا للموضوع بصورة أفضل.
كما يمكن للخطيب أو المبلّغ أن يقوم بنشر مختصر لموضوعه إلى المخاطبين مسبقا لشد انتباههم و قوة تركيزهم أثناء إلقاء المحاضرة أو المجلس، و تهيأة الأسئلة إن وجدت.
الموضوع الجالب للمشاهد و المخاطَب في التبليغ و في التخفيف من الجهد الفكري للمخاطبين يتضمن قصصا مفيدة و حكايات رائعة ، أو تقديم معلومات بطريقة قصصية هادفة ، و ليس فقط طرحا فكريا بحتا ، أو علميا صرفا و خاصة المجالس الحسينية ، أو في نهار شهر رمضان حيث الشعور بالتعب و الحاجة إلى الراحة.
و الأسلوب القصصي يشدّ المخاطَبين إليه و يرغّبهم في سماع القصص حتى نهايتها، و لذا فإنّ القصة في أول المجلس تكون جالبة للمخاطَبين في الانتباه و المتابعة ، و قد تكون كالمفتاح للموضوع.
كما أنّ بدء المجلس بالآيات القرآنية و ذكر اسباب النزول ابتداء يشدّ المخاطَبين و يجلبهم للخطيب، و خاصة أنّ أسباب النزول تمثل مفاتيح لتفسير الآيات القرآنية و طريقا لفهمها.
و قد يكون من المفيد أن يتضمن محتوى الموضوع بعض النكات الجميلة التي تجلب القارئ مع مقاربتها للموضوع، و تختصر بيان المطلب.
يحتاج المبلّغ في مجالس النعي و العزاء إلى إثارة مشاعر المخاطَبين بشكل إيجابي مفيد و صادق، بهدف الوصول إلى حالة البكاء أو التباكي في مصيبة الإمام الحسين عليه السلام و أصحابه و الأئمة عليهم السلام، و هكذا في مجالس الفاتحة للشهداء رضوان الله تعالى عليهم ، و يحتاج في تلك إلى مقدمات يتضمنها محتوى الموضوع و تكون عادة في خاتمته بقصة او فكرة تكون مقدمة و تنتهي بما يعرف على لسان الخطباء بــــ الگريز ، وهي مرحلة التحول من الموضوع إلى النعي و البكاء على مصاب الحسين وأهل بيته عليهم السلام.
وفقنا الله و إياكم للعمل الصالح و التبليغ الناجح، و جعلنا جميعا طرق هداية للبشرية جمعاء.
محمد جواد الدمستاني
الأحد ٧ - شعبان -١٤٤٥ هـــ
الموافق 18-02-2024 مـــــ
[1] - بحار الأنوار، الشيخ المجلسي، ج75 ص80
[2] - الكافي، ج ١، الشيخ الكليني، ص ٢٧، ميزان الحكمة، ج 5، محمد الريشهري، ص 36
[3] - الکافي، ج2 ص116
[4] - بحار الأنوار،ج75 ص119 ، الرواية «مِنْ دَلاَئِلِ عَلاَمَاتِ اَلْقَبُولِ اَلْجُلُوسُ إِلَى أَهْلِ اَلْعُقُولِ وَ مِنْ عَلاَمَاتِ أَسْبَابِ اَلْجَهْلِ اَلْمُمَارَاةُ لِغَيْرِ أَهْلِ اَلْكُفْرِ وَ مِنْ دَلاَئِلِ اَلْعَالِمِ اِنْتِقَادُهُ لِحَدِيثِهِ وَ عِلْمُهُ بِحَقَائِقِ فُنُونِ اَلنَّظَرِ».