ياسر آل غريب / القطيف
لا يكتفي الشعر بإيراد مآثر الإمام الحسين عليه السلام، وسرد تاريخ كربلاء كحدث مفصلي في الإسلام، بل تتجلى شخصية الشاعر فيما يكتبه، وهو بهذا يقدم (أناه) في الموضوع الذي يتحدث عنه. وحينما يدور الحديث عن الإمام الحسين عليه السلام فإنه سيكون حساساً بحساسية الحدث التاريخي وما ترتب عليه، حينها سيبرز موقف الشاعر تجاه ما حدث لهذه الشخصية المؤثرة.
إذا أردنا أن نبحث عن الذات فعلينا أولاً قبل قطع المسافات الشاسعة أن نملأ زوادتنا برؤية فلسفية، وبجرعات من علم النفس، وما تيسر من علم الإنسان، ودراسة أحوال وجوده. وإذا أردنا ان نلج إلى الذات في الشعر فعلينا أن نمتلك حساسية من الوعي لنلتقطها لحظة عروجها الشعري، ولحظة تخفّيها وراء الرمز.
وإذا أردنا أن نتخصص أكثر لمكتشف الحضور الذاتي في الشعر الحسيني، فهذا يتوجب أن نستعرض شريط تاريخ ألف وأربعمئة عام؛ لنميز في القضية الحسينية بين ما هو موضوعي مهتم بمعرفة الخارج عن طريق الحواس والخضوع للتجربة، وما هو ذاتي يتبنى معرفة الداخل عن طريق الهوية الشخصية.
الشعر الحسيني على مر العصور ظلَّ متمسكاً بالسرد التاريخي، والإيغال في تفاصيل المأساة. وظل الشاعر راوياً أميناً، ينقل لنا الأحداث كوثائق تاريخية يحتفظ بها الأجيال؛ لتصبح ذاكرة كبرى مصحوبة بالنكهة العقائدية. ولكن هذا الشعر لم يقف عند هذا الحد، فقد صاهر الواقع وأصبح متسلحاً بالرؤية، وظلَّ مُجابهاً برمزية الشهيد، ورمزية كربلاء المكانية وعاشوراء الزمانية.
وتطرق علم الاجتماع إلى ممارسات عاشوراء بكونها ظاهرة دينية مرتبطة بذاكرة جمعية، ويرى أنها تكرِّس خلود الظاهرة الاجتماعية التاريخية التي خلقتها.
وعندما يعود الشاعر إلى لحظات طفولته، فلا يعني هذا أنه غارق في الماضوية بقدر ما يعني التأمل كيف تشكلت ذاته الأولى.
الشاعر جاسم الصحيح فصَّل كثيراً عن لحظةِ مولده في قصيدته (رحلة نحو جرح الحسين) التي تقترب من المعارضة الشعرية لعينية الجواهري وتبتعد عن التقليد. استطاع الشاعر أن يصور لنا هويته ملتزماً بوحدة الأبيات عن موضوع الطفولة الحسينية:
عَرَفْتُكَ في الطَلْقِ جِسْرَ العبور مِنَ الرَحْمِ للعـــــالمِ الأوْسَعِ
وفي الرَضْـعَةِ البِكْرِ أنت الذي تَقاطَرْتَ في اللبنِ المـــوجعِ
وَقبلَ الرضاعةِ قبلَ الحليـــــب تقاطَرَ إسْمُكَ في مَسْمَـــــعي
بَكَيْتُكَ حتى غَسَلْتُ القمـــــاط على ضِفَّتَيْ جرحِكَ المشرعِ
وما كُنتُ أبكيـــــكَ لو لم تكنْ دِمــــــاؤكَ قد أيْقَظتْ أدْمُعي
كبُرْتُ أنا والبُكاءُ الصغيـــــر يُكَبِّرُ عبر الليـــــــــالي معي
هكذا يُطلُّ الشاعرُ من لحظةِ الطَلْقِ إلى الدُنيا ناقلاً لنا الصورة العجائبية لطفولته، حيث كل حركة فيها تشير إلى الإمام الحسين عليه السلام، والارتباط به من ساعة مخاض والدته، إلى رضاعة الحب المقدس، حتى لحظة البكاء، وكأنه يختصر حقيقة انتمائه، في مرحلة طفولته الأولى.
وينقلنا جاسم الصحيح إلى نفس الموضوع في قصيدته (أنا والحسين انتماء للحزن الأبيض) حيث حضور الرمز والذات في حالة إنسانية مختلفة عن السائد بجو يقترب من الميثيولوجيا:
"وأعجبُ من جَدِّيَ الطودِ كيفَ يميلُ على جَهْشَةِ النَعْيِ
كيفَ يُزلزلُ هيبتَهُ بالعزاءْ
وكيفَ لأُمّيَ أن تقتلَ الأُمَّ فيها وتنذُرَني يومَ (عاشور) للذبحِ
كيفَ لهذي البريئةِ أن تنتشي بالدماءْ؟
عجيبٌ هو الانتماءْ"