بقلم/ محمد طهمازي
لم تعد المشكلة الفكرية الشاغلة للعالم الإنساني في هذا العصر هي تلك المتعلّقة بالنظام الاجتماعي، المتداخل مع الاقتصادي والسياسي، الذي يدّعي الإمساك بأصدق الإجابات التي تجعل منه النظام الوحيد الصالح أو المناسب للحياة الإنسانية والقادر على تحقيق السعادة للفرد, بل تحوّلت نحو المنظومة السياسية والاقتصادية التي تفرض منظومتها الاجتماعية المصممة لإدامة سيطرتها الاقتصادية والسياسية أي أنها تخلَّت تمامًا عن فكرة المنظومة الاجتماعية الصالحة للعيش والمحققة لسعادة الانسان وصار هدفها الأول والأخير فرض هيمنتها على المجتمعات والدول وتحويلها إلى سوق تجاري لا يستهلك سوى بضائعها ولا يُبنى فيه حجر إلا عبر شركاتها, هذا في حال بُنِيَ, وحقلاً لتجاربها الفيروسية وأدويتها ومركباتها الزراعية المسرطنة..
ولأجل أن تستطيع فرض منظومتك الأخلاقية والمجتمعية الجديدة، وفق نظرية الاستعمار الحديثة، عليك أن تتخلص من المنظومة القديمة أو كبداية أن تنتزع مساحات ومناطق مهمة فيها لكي تقوم بعملية تعشيق تثبّت من خلالها منظومتك الجديدة في أرض المنظومة القديمة لتلك الأمة أو الشعب ثم تشرع مع الوقت بنخرها وتمزيق أحشاءها، وما من مساحات مهمة وقاتلة كالنظم الأخلاقية والهويات الثقافية والتراثية.
إن محو السمات الخاصة التي تكوّن هويّة الأمة الثقافية والأخلاقية سوف يحرمها شيئًا فشيئًا من ميزاتها التي فُطِرت عليها نتيجة بيئتها وتاريخها وعوامل كثيرة لتحقيق حالة من الاختلاف بين الأمم الأمر الذي يفضي لحراك معرفي تتبادله كل أمة مع الأمم الأخرى.. ويجعلها تفقد كل معاني الشعور بكيانها المعنوي وبوجودها، حتى لو ظلت تؤكد صباح مساء على تمسكها بهويتها من خلال اللغة والتاريخ، أو الأوامر والنواهي التي يمليها عليها دينها، فكل ذلك سوف يبقى فارغًا من محتواه طالما قد تم اختراقها من الداخل وضرب الأسس التي تستند عليها بنيتها.
في هذه المرحلة نجد تكرار شعارات الجندر حيث هو حديث الساعة ورأس حربة اختراق المنظومة القيمية لمنطقتنا العربية الإسلامية التي تفرض على حكوماتها مثل ابتلاع الطعم المسموم بدواعي العصرنة وحقوق الإنسان والعالم الجديد وما إلى ذلك من شعارات لو أمعنت النظر فيها لوجدتها الرؤوس الظاهرة من مخططات ضخمة غائرة تحت الرمال تم التحضير لها منذ عهود وبدأ العمل فيها عبر التمهيد الإعلامي والانفجار والمعلوماتي والفضائيات ومواقع التواصل الاجتماعي ثم الضربات التهشيمية للمجتمعات والدول على حد سواء بمطارق العولمة والربيع العربي والتطبيع والتجويع.
إن الجندر ليس فكرة أو فورة أو صرعة أزياء عابرة وليس هو الهدف بحد ذاته كما يصوره البعض من قصيري النظر بل هو حلقة من سلسلة حلقات فولاذية يسعى صانعوها لتقييد حركة الشعوب بها وثنيها عن تحديث هوياتها وإنتاج حضاراتها الجديدة والتشويش على رؤيتها للمستقبل، فالتحضر لا يأتي عن طريق موجات التقليد السريع كقصات الشعر والجينز لأنه مخاض داخلي أهم معرقلاته التقليد والقيود التي تمنعه من الوصول للمنطقة الخلاقة التي تمسك فيها الأمة بهويتها المميزة وخياراتها الحرة التي تناسبها ومفاتيح بوابة حضارتها المستقلة.