بقلم الكاتبة اللبنانية (أماني سعد ياسين)
كنت أرى صور المسيرات الجماهيرية لزوار الأربعين في كل سنة وفي كلّ مرّة، كنتُ أتعجّب من قدرة وقوّة هؤلاء الزوّار، كيف يستطيع الزائر أن يسير مسافة تفوق الثمانين كيلومتراً على أقلّ تقدير، وهي المسافة من الحدود ما بين مدينتي النجف وكربلاء وتفوق المئة من الكيلومترات إن قسنا المسافة من حرم الإمام علي عليه السلام في النجف إلى حرم الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العبّاس "عليهما السلام" في كربلاء وكثير من الزوّار يفضلّون طيّ المسافة كلّها دون نقصان من الحرم في النجف إلى الحرم في كربلاء مشياً على الأقدام.
كنتُ أعجب دائماً وتراودني الأسئلة الكثيرة: ماذا يفعل هؤلاء ؟!ولماذا ؟!! وما الهدف من هذه المسيرة المليونية العجيبة والتي تتكرر في كل عام ؟!!
أسئلة وأسئلة كثيرة كانت تجول في خاطري، أسئلة مُشكّكة حيناً وأسئلة ترافقها الكثير من علامات الاستفهام أحياناً، والكثير من علامات التعجّب في أحيان أخرى، ولم أكن لأقنع نفسي بالكثير من الإجابات التي كنت أسمعها من حولي هنا وهناك في محاولة لتفسير هذه الظاهرة الفريدة فعلاً، فليس لمسيرة الأربعين هذه شبيه ولا مثيل في العالم أجمع ولم يحصل مثل هذه المسيرات لا في التاريخ القديم ولا الحديث إلّا هذه المسيرات المليونية التي تنطلق تلقائياً ومن دون دعوة من أحدٍ ومن دون جهةٍ راعية أو مموّلة منذ سنواتٍ طوال وما زالت مستمرة الى الآن بل إنّ وتيرتها وقوّتها تزداد سنةً بعد سنة وسط تعجُّب وذهول العالم أجمع .
في هذه السنة فقط، أتاني الجواب على طبقٍ من فضة وذلك بعدما شاركتُ بنفسي في مسيرة أربعين الامام الحسين "عليه السلام" لأوّل مرّة وأنا في شكٍّ مستبين بل ويقين بأنّني لن أستطيع أن أكمل هذا المسير الطويل سيراً على الأقدام بل كنت على يقين من أنّني سوف أتوقف عن المسير بعد ساعاتٍ قليلة لأكمل الطريق إلى كربلاء في أحد الباصات المخصّصة للركّاب وبعضها مجاناً وتبرّعاً لخدمة الزوار ما بين المدينتين.
بدأنا المسير في مساء يوم الجمعة بعدما أدّينا صلاتي المغرب والعشاء في مقام أمير المؤمنين في النجف وانطلقت مسيرتنا الطويلة إلى كربلاء الحسين. انطلقنا في مسيرتنا من مكانٍ يُقال له "صحن التوديع" في الحرم المطهّر وبدأت رحلة المشّاية إلى كربلاء. كنت مع مجموعة من الأصدقاء والأقرباء شباباً وصغاراً وكباراً. كانت أقدامنا تغوص في التراب الموحل نتيجة المطر الذي تساقط في فترة بعد الظهر على الطرقات الترابية في أوّل الطريق من النجف إلى كربلاء. كنّا نتعجّب أن كيف تسير الناس على هذه الطرقات وفي كلّ خطوة كانت أقدامنا تغوص في الوحل الكثيف وفي الكثير من الأحيان تنزلق وكأنّنا نسير على رغوة الصابون تماماً. كنّا نسير ونحن في خشية وخوف أن تنزلق بنا الأقدام فتنكسر رقبتنا او ينكسر عمودنا الفقري وكدنا أن نتوقف عن المسير عدّة مرّات في أثناء الطريق لولا أن رأينا حماسة الكثير من الشبّان السائرين على الطرقات الموحلة أمامنا وهم يردّدون الهتافات بصوتٍ عال وهم يسيرون بسرعة وكأنّهم يسيرون على مرمرٍ مرصوف.
بعد مسير ساعة او أكثر على الطرقات الترابية الموحلة وصلنا إلى طرقات معبّدة نوعا ً ما وكنّا في طريقنا نتبع السائرين أمامنا وكذلك بعض الكتابات على الجدران التي تشير إلى "الطريق إلى كربلاء".
وصلنا إلى العامود رقم واحد بعد مسير ساعاتٍ ثلاث من حرم أمير المؤمنين علي "عليه السلام" وهو العامود الأوّل الذي ينطلق الكثير من السائرين منه إلى كربلاء. وبحسب قول أحد السائرين معنا فإنّ عدد العواميد التي تحدّد مسير السيّارة إلى كربلاء الحسين "عليه السلام" هو ألفٌ وستمئة. شعرت بالوهن وأنا أفكّر بأنّني لن أستطيع القيام بهذا الأمر ولكنّني سرعان ما تحمّست بعدما رأيت الطرقات مليئة بالزوّار السائرين والأولاد تركض هنا وهناك وكأنه نهار مشع وليس بليل مظلم موحش.