بقلم (صبيح الكعبي)
تحزّم المؤمنون وشدّوا رحالهم نحو كربلاء لتجديد البيعة لإمامهم المظلوم الحسين بن علي "عليه السلام" بمناسبة أربعينيته سيراً على الأقدام لما لها من عظيم الشأن في تحمّل المسير والسهر ودرجات الحرارة.
لم يأت من فراغ هذا العناء، إنما هو إختبار للصبر وامتحان للعقيدة والحب الذي لا يفارق القلوب اللاهفة على صريع الدمعة الساكبة والمذبوح ظلماً وبهتاناَ.
إن الجحافل والجموع التي نراها والعالم، تسير الى بقعة اقتطعها الله سبحانه وتعالى وجعلها ترعة من الجنة ووضعها على الأرض "كربلاء المقدسة"، إنها تأخذ عقل اللبيب، ومشاعر الحنين، وشوق الملهوف، إستدل عليها العارف بأدلة قطعية ثبوتية ولّدت قناعات لا لبس فيها عند المتيقن والمؤمن بحتمية مصداقيتها منها: -
الدليل الأول: روايات كثيرة ومشجعة على السير نحو قبر الحسين "عليه السلام"، نستقطع منها "عن الحسين بن علي بن ثوير بن أبي فاختة، قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): يا حسين... من خرج من مكانه ماشياً كتب الله له بكل خطوة حسنة وحط بها عنه سيئة، حتى إذا صار بالحائر كتبه من المفلحين وإذا أتاه ملك فقال له: أنا رسول الله، ربك يقرئك السلام ويقول لك: أستأنف حتى قضى مناسكه كتبه من الفائزين، وعن جابر المكفوف عن أبي الصامت قال: سمعت أبا عبد الله "عليه السلام" وهو يقول: من أتى قبر الحسين عليه السلام ماشياً كتب الله له بكل خطوة ألف حسنة.
الدليل الثاني: الحديث المروي عن السنة والشيعة "أفضل الأعمال أحزمها، تعني أشدها وأمتنها واكثرها مشقة" ويدل ذلك على استحباب المشي الى قبر الامام المظلوم "عليه السلام".
الدليل الثالث: الحديث المروي عن السنة والشيعة "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمهما الله عن النار، إنما تغبر بالتراب عادة بسبب المشي دون الركوب".
الدليل الرابع: في المشي إظهار لقوة وشوكة أتباع ومحبي أهل البيت "عليهم السلام"، وترجع شعيرة المشي لزيارة الإمام الحسين "عليه السلام" تاريخياً ـ كما جاء في بعض الروايات ـ إلى الصحابي الجليل جابر بن عبد الله الأنصاري "رضي الله عنه"، حيث إنّه زاره في يوم الأربعين مشياً على الأقدام، وكان جائياً من المدينة، وشعيرة المشي له موجودة منذ زمن الأئمّة "عليهم السلام" لأنّ وسائل النقل الدارجة كانت عبارة عن أمرين:
الأول: ركوب الخيل والجمال والبغال والحمير.
الثاني: المشي على الأقدام.
ورد في الشريعة الإسلامية استحباب المشي حافياً أو غير حافٍ في مواضع عديدة، فيُستحب المشي للمسجد، للإمام أن يمشي حافياً عندما يخرج لصلاة العيد، تشييع الجنازة، المشي للحجّ والعمرة عند رمي الجمرات لزيارة المؤمن، فليس استحباب المشي أمراً غريباً عن الفقه، بل له نظائر، ومن جملة الموارد التي يُستحبّ فيها المشي هي زيارة مراقد الأئمّة "عليهم السلام"، والسير نحو قبلة الأحرار في كربلاء المقدسة جملة أمور من الآداب التي ينبغي للماشي ان يتحلى بها وهي مستقاة من الروايات الواردة عن أهل البيت "عليهم السلام":
1ـ أن يكون الزائر عارفاً بحقّ الإمام الحسين "عليه السلام"، لأنّ الثواب الجزيل إنّما يترتّب على كون الزائر عارفاً بحقّه، ولعل التفاوت في الأجر الذي تقدَّم في الروايات يرجع إلى المعرفة، فبعض الزائرين يُعطى بكلّ خطوة حسنة في حين يُعطى الآخر بكلّ خطوة ألف حسنة، ويحصل الآخر بمقدار معرفته على ثواب حجّة متقبَّلة بكلّ خطوة، و يحصل العارف بحقّه بكلّ خطوة على عتق رقبة، فالمناسب للزائر أنّ يشتغل طول الطريق بالتعرُّف على شخصية الإمام وأخلاقه، ويحاول تطبيقها والعمل بها ليحصل على الثواب الجزيل.
2ـ أن يغتسل ويلبس ثياباً نظيفة وطاهرة، ويحافظ على السكينة والوقار، فلا يتصرَّف تصرُّفاً ينافي ذلك، وينبغي مراعاة النظافة بشكل عام طوال الطريق ويتجنَّب رمي النفايات على الأرض، ورميها في المكان المخصص لها؛ فإنّ الله تعالى يقول: ﴿إنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾، كما أنّ من المبادئ الأساسية في الإسلام هي النظافة.
3ـ أن يتجنَّب خلال طريقه كلَّ ما يسيء إلى سمعة وكرامة وعزّة المذهب؛ لأنها ستنعكس على سمعة وكرامته، فعلى الزائر أن يبتعد عمّا يسيء لذلك، كالتهاون بالصلاة وعدم رعاية الحجاب، كما أنّ عليه أن يحفظ قلبه وسمعه ولسانه وبصره عن الحرام؛ فإنّ الله تعالى يقول: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾. وقد جاء في صحيحة عن هشام بن الحكم، قوله: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: إياكم أن تعملوا عملاً يعيِّرونا ـ أي المخالفون ـ به، فإنّ ولد السوء يُعيَّر والده بعمله، وكونوا لمَن انقطعتم إليه زيناً ولا تكونوا علينا شيناً… ولا يسبقوكم ـ يعني المخالفين ـ إلى شيء من الخير، فأنتم أوْلى به منهم".
4ـ ينبغي للزائر حال مشيه أن يعمل أفعال الخير، فيرحم الكبير، ويعطف على الصغير، ويساعد المحتاج، ويغيث الملهوف، ويتخلّق بالأخلاق الحسنة، وأن يتكلَّم مع الناس بما هو خير طبقاً لقوله تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾، بحيث يكون متمسِّكاً بأخلاق أهل البيت "عليهم السلام" وداعيةً لهم؛ فإنّ التصرُّفات الإيجابية ستنعكس على سمعة المذهب وكرامته؛ ولذا ورد عن سليمان بن مهران، قال: "دخلت على الصادق جعفر بن محمد (عليهما السلام) وعنده نفر من الشيعة، فسمعته وهو يقول: معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، واحفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول وقبيح القول".
5ـ عدم الأكل أثناء المشي، بل المناسب أن يجلس ويستريح قليلاً، ثمَّ يأكل، إلّا إذا اضطرّ إلى ذلك، وعدم السرعة في المشي؛ فإنّه من المستحبّات أن يمشي بسكينة ووقار، وسرعة المشي تذهب بالسكينة والوقار وتطفئ نور المؤمن، فعن أبي عبد الله "عليه السلام"، قال: "لا تأكل وأنت تمشي إلّا أن تضطرّ إلى ذلك"، وقد ورد عن أبي الحسن "عليه السلام"، قوله "سرعة المشي تذهب ببهاء المؤمن"، وقال "عليه السلام"، "المشي المستعجل يذهب ببهاء المؤمن ويطفئ نوره".
6ـ أن يتحلّى بآداب المشي، فعليه أن يكون قاصداً في مشيه ويمشي هوناً، وبتذلل وخضوع وعلى سكينة ووقار؛ كي يكون ممَّن يمشي سوياً على صراط مستقيم.
ان المشي شعيرة مهمة يتمسك بها المؤمن بشرطها وشروطها وان يحافظ على الذوق العام واحترام القانون لأنهما من أوليات حب الوطن والتمسك بتربته .