في كل زاوية في الروضة الحسينية، حكاية تتنفس المجد، وتاريخ نُقِش بخطوط المعمار والخشوع معاً، وفي قلب كربلاء، تتربع الروضة الحسينية المطهرة كأيقونة معمارية وروحية، احتضنت خلال قرون مضت أعظم المعلمين والعلماء والرواد.
في كتابه "أضواء على معالم محافظة كربلاء" الصادر سنة 1971م، وثّق الشيخ "محمد النويني" ما يمكن اعتباره شهادة تاريخية ثمينة حول عمارة الروضة المباركة، مشيراً إلى رحابة الصحن الحسيني بطول (95) متراً وعرض (75) متراً وزخارف أواوينه البديعة.
ولقد عُرف الصحن آنذاك بعشر أبواب مهيبة، تزيّنت بالكاشي المزخرف، أبرزها باب القبلة، وباب قاضي الحاجات، وباب الشهداء، إلى جانب باب الزينبية، وباب العلامة الشيرازي وغيرها، ولكل باب قوس فسيفسائي يأسر العين ويستنهض الوجدان.
لكن خلف هذا الجمال البصري، تكمن أعماق من القداسة، إذ تضم أواوين الصحن (65) إيواناً، والتي كانت في الأصل محاريب علمٍ وتدريس، قبل أن تتحوّل مع الزمن إلى مدافن لعلماء ومفكرين كبار، فهنا يرقد الشيخ "عبد الحسين الطهراني"، بأمرٍ من السلطان "ناصر الدين شاه القاجاري"، وهناك يرقد الزعيم الديني آية الله الشيخ ميرزا "محمد تقي الشيرازي"، رمز ثورة العشرين.
يذكر أن الصحن الشريف قد مرّ بتغييرات وتوسعات ضخمة، فقد أطلق محافظ كربلاء الأسبق، السيد "شبيب المالكي"، مشروع تنسيق عمراني هام، بدأ من الجهة الغربية للصحن، ولا يزال العمل مستمراً لتوحيد ملامحه المعمارية.
أما من تقف خلف تفاصيل البناء والزخرفة، فهي أسماء كبيرة من سلاطين وشخصيات بارزة في التاريخ الإسلامي، من الشاه "سليمان الصفوي"، إلى السلطان "عبد الحميد العثماني"، والذي أعاد بناء الإيوان الأوسط بعد أن ظهر فيه صدع خطير، في شعبان من عام 1309هـ.
وقد كانت زوجة السلطان الصفوي، "فتح علي شاه القاجاري" من أبرز الداعمات في تشييد الجانب الشرقي، بالتعاون مع السيد "أحمد كاظم الرشتي"، مما يُظهر عمق الارتباط الروحي والسياسي الذي حظيت به هذه الروضة من جميع أركان العالم الإسلامي.
تجدر الإشارة إلى أن الروضة الحسينية المطهرة ليست مجرد صرح معماري، بل مرآة متجددة لحضارة إسلامية عريقة، جمعت في زواياها بين العلم والقداسة، وبين العمارة والخشوع، لتظلّ شاهدة على تعاقب الأجيال، ومأوى للأرواح التي آمنت أن كربلاء هي بوابة الخلود.
المصدر: محمد النويني، أضواء على معالم محافظة كربلاء، ج1، 1971، ص36-37.