لم تكن عاشوراء حدثاً ينتهي بانتهاء سيف، أو بانكفاء راية، فالثورة الحسينية بقيت ناراً تحت الرماد، تقضّ مضاجع الطغاة في كل جيل، وتحمل في رمزيتها تهديداً دائمًا لمنظومات الفساد والاستبداد.
ولذا، فإن سلاطين الجور، من بني أمية إلى ورثتهم عبر التاريخ، لم يكتفوا بقتل الحسين "عليه السلام"، بل سعوا بعدها إلى اغتيال قضيته وتشويه أهدافه، عبر أدوات الإعلام، والوعّاظ، وكتّاب البلاط.
ويرصد الفصل الأول من كتاب "أصحاب الإمام الحسين بين الحقيقة والتشكيك... جدلية العدد"، كيف تحولت النهضة الحسينية إلى هدف دائم لحملات التضليل والتشويه الأموي.
وقد اتخذ هذا التضليل أشكالاً متعددة، أخطرها هو نزع الطابع الديني عن الثورة بزعم أنها صراع عشائري على الحكم بين أبناء "عبد مناف، حيث أراد الأمويون إفراغ كربلاء من مضمونها العقائدي، وتقديمها للرأي العام كتمرد على السلطة، لا كقيام حق على الباطل.
أما ثاني هذه الأشكال المضللة، فهو إتهام الإمام الحسين "عليه السلام" بطلب الدنيا عندما روّج الإعلام الأموي أن الحسين خرج طامعاً بالخلافة، لا مصلحاً في أمة جدّه، لكن هذه الفرية تهاوت أمام نصوص متواترة لدى جميع الفرق الإسلامية، عن علم النبي "صلى الله عليه وآله" باستشهاد سبطه، وبمكان مقتله، قبل وقوع الحدث بنحو نصف قرن.
ومن أقوى الردود على الادعاءات الأموية، ما ورد في كتب الحديث والتاريخ المعتبرة، ومنها ما رواه الفريقان عن أم المؤمنين "أم سلمة"، أن النبي "صلى الله عليه وآله" قال لها: "إن ابنك هذا حسيناً مقتول، وإن شئتِ أريتك من تربة الأرض التي يُقتل بها..." ثم ناولها حفنة من تراب كربلاء، وأمرها أن تحفظه، فإذا صار دماً، فلتعلم أن الحسين قد قُتل.
وفي بعضها أن أم سلمة سمعت هتافاً من السماء ليلة العاشر من المحرم يقول:
أيهـا القاتلـون جهـلاً حسينـاً أبشروا بالعذاب والتذليل
قد لعنتم على لسان ابن داود وموسى وحامل الإنجيـل
وعندما فتحت القارورة، وجدت الحصيات قد جرت دماً في مشهد يُكذّب كل الروايات الدعائية التي حاولت تصوير الحسين كخارجٍ على الدولة.
وبهذا لم تكن المعركة على كربلاء فقط، بل على المعنى الذي يُمثله الحسين في وعي الأمة، حيث سعى الأمويون إلى أن يطمسوا قيمة التضحية والنهضة، بأن يُصوّروا الشهيد وكأنه طالب سلطة، لا رمز رسالة، من منطلق إدراكهم أن الحسين إذا بقي قديساً في ضمير الناس، فإن خلافتهم ستبقى مدانة إلى الأبد
ولذلك، كانت حربهم على رمزيته أعنف من حربهم على جسده، إلا أن الحق لا يُمحى، وقدرة عاشوراء على البقاء أثبتت فشل كل حملات التشويه مهما تبدّلت أدواتها في الماضي والحاضر والمستقبل.
المصدر: عبد الأمير عزيز القريشي، أصحاب الإمام الحسين بين الحقيقة والتشكيك – جدلية العدد، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، 2022، ص35-37.