بعد أن فتحت الحلقة الأولى ملف التشكيك المتعمّد في الأرقام، ننتقل اليوم إلى رصد نمط مختلف من التزوير التاريخي، يقوم على تضخيم عدد أنصار الإمام الحسين "عليه السلام" بإدعاءات غير موثقة، تزعم أن أصحابه في كربلاء كانوا بالآلاف.
وهنا يبدر إلى الأذهان، تساؤلاً منطقياً عن السبب وراء تضخيم العدد، وما الدافع خلف هذه المبالغات؟، ولماذا تصرّ بعض الأطراف على نشر هذه المزاعم دون مصدر أو دليل؟، فهل الهدف هو نصرة الحسين "عليه السلام"؟ أم تشويه طبيعة حركته التي قامت على النخبة الواعية لا الكثرة العددية؟
ويوضّح الباحث الأستاذ عبد الأمير القريشي، في مقدمته عن الفصل الثاني من الدراسة المعنونة بـ "أصحاب الإمام الحسين بين الحقيقة والتشكيك... جدلية العدد"، أن هذه الادعاءات القائلة بآلاف المؤازرين لا تستند إلى أي مصدر موثوق، بل تأتي في سياقات إعلامية عاطفية، أو سياسية متأخرة، تُستخدم للتشويش على طبيعة الثورة الحسينية.
فالواقع التاريخي يشير إلى أن سيد الشهداء "عليه السلام" لم يكن يقود جيشاً بالآلاف، بل كان محاطًا بخلاصة الصفوة من المؤمنين والموالين من أصحابه وأهل بيته الأطهار، وأنه اختار المواجهة وهو يعلم قلة العدد، وعظمة التضحية، وشرف الغاية.
ويرى المؤلف أن هذا اللون من التشكيك – على عكس ما يتصوره البعض – لا يخدم الإمام "عليه السلام"، بل يُفرغ ثورته من بعدها الرسالي، ويحولها إلى مجرد "معركة عددية خاسرة"، بلا رمز ولا هدف، فإذا كان "عليه السلام"، قد خرج ومعه جيش بالمئات أو الآلاف، فلماذا لم ينتصر؟، وإذا كان أنصاره كثر، فلماذا قُتل وهو وحيد؟، وهنا تكمن خطورة المبالغة فهي تُحوّل الشهادة إلى هزيمة، والتضحية إلى عبث.
وتبيّن الدراسة أن أصحاب هذا الادعاء لا يقدمون مصدراً واحداً موثقاً من المصادر التاريخية الأولى التي تؤيد رواية "الآلاف"، بل على العكس، فإن المصادر المعتمدة تؤكد أن العدد كان محدوداً، وقد تراوح بحسب الروايات المعتبرة بين (72) وهو العدد الرمزي المشهور، وبين (82) وفقاً لبعض الروايات المعززة بالأسماء، أو نحو (100) في أقصى التقديرات المتأنّية، التي تشمل من التحق في الطريق أو استشهد بعد المعركة.
هذا وقد إعتمد المؤلف ضمن هذا الإطار، على عدد من أمهات كتب التاريخ، والتي يُعتد بها علمياً من حيث القدم والدقة ووثاقة الرواة، ومنها طبقات ابن سعد (ت 230هـ)، وأنساب الأشراف للبلاذري (ت 279هـ)، وتاريخ الطبري (ت 310هـ)، فضلاً عن كتاب الفتوح لابن أعثم الكوفي (ت 314هـ)، والإرشاد للشيخ المفيد (ت 413هـ)، إلى جانب مجموعة كبيرة من كتب المقاتل والسير، حيث تم تحليلها وفق المنهج العلمي لا الانطباع العاطفي.
وبالنظر لما سبق، فإنّ التهويل في الأعداد ليس انتصاراً للحسين "عليه السلام"، بل تزييف لحقيقة ملحمته التي قامت على قلة العدد، وعظمة الموقف، واستشعار فدائي راقٍ نادر الوجود، ولذلك، تؤكد هذه الحلقة إن كل قول بادعاء الآلاف لا بد أن يُعرض أولاً على منهج التحقيق، ويُفكك أدبياً وعقلياً وتاريخياً.
المصدر: عبد الأمير عزيز القريشي، أصحاب الإمام الحسين بين الحقيقة والتشكيك – جدلية العدد، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، 2022، ص31-32.