في سردية التاريخ الإنساني، لم تولد مدينة ما عبثاً، فلكل مدينةٍ قامت عبر الزمن وظيفة محددة، تتشكّل في ضوء موقعها الجغرافي وموضعها الاستراتيجي، وهو ما شكّل دافعاً أساسياً لنموها واستمرارها، وتنوّعت هذه الوظائف بين التجارة، والسياسة، والعسكر، والصناعة، والصحة، والترفيه، والثقافة، والدين.
وتبيّن الشواهد التاريخية، أمثلة حية تؤكد هذا النمط الوظيفي المتغيّر، فقد نشأت مدينة "أور" في جنوب العراق كمدينة تجارية، كونها مثّلت ميناءً حيوياً، ثم تحوّلت إلى عاصمة سياسية، أما مدينة "الدير" فقد بدأت نشأتها بوظيفة سياسية، لتتحوّل في الألف الأول قبل الميلاد إلى مدينة ذات طابع عسكري، فيما برزت "بابل" الشهيرة في بلاد وادي الرافدين، كمركز للحكم والإدارة في الألفين الثاني والأول قبل الميلاد.
لكن عندما يصل الأمر إلى مدينة كربلاء، سيظهر نموذج فريد لوظائف المدن، حيث امتزج الموقع الجغرافي بالدور الروحي عبر التاريخ، ففي بداياتها، شكّلت كربلاء ممراً مهماً للأقوام المتّجهة نحو وادي الرافدين، وكانت طرق التجارة البرية تمرّ عبرها من وإلى شبه الجزيرة العربية، مما أضفى على نشأتها بعداً تجارياً أولياً، وإن كان بسيطاً.
لكن التحوّل الأهم في وظيفة كربلاء بدأ مع نشوء مراكز العبادة فيها، من معابد وأديرة، قبل أن يمنّ الله عليها بالشرف الأكبر باحتضان الجسد الطاهر للإمام الحسين "عليه السلام"، فارتقت المدينة إلى مقامها الديني الخالد، لتصبح قلباً نابضاً للهوية الإسلامية ووجهة روحية للعالم أجمع.
لقد أصبحت الوظيفة الدينية هي المحرّك الأساس في حياة المدينة، تتجدد مع الأيام، وتُبقي كربلاء مركزًا حضاريًا وثقافيًا واجتماعيًا يفوق حدود الجغرافيا والتاريخ.
وتُظهر الدراسات التاريخية أن نشأة المدن الدينية كانت في أصلها مرتبطة بالعبادة، فغالبية مدن العراق القديم لم تُقم إلا لتأدية طقوس دينية أو احتضان مراكز مقدسة، وتنوعت تبعاً لذلك إلى مدن تذكارية، ومدن أديرة، ومدن حج، ومدن حكم ديني.
أما كربلاء، فقد جمعت كل تلك الأنواع في آنٍ واحد، حيث بدأت كنقطة استراحة للأقوام الراحلة، ثم أصبحت مركز استيطان، فمدينة معابد، فمدينة ضريح، حتى بلغت ذروتها كعاصمة روحية للمسلمين، بما تحتضنه من رمزية دينية ومكانة وجدانية فريدة.
وبهذا، تبقى كربلاء المثال الأوضح على أن الدين ليس مجرّد منظومة عقائد، بل محرّك حقيقي لنشوء الحضارات واستمرار المدن.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية، المحور التاريخي، قسم التاريخ القديم، ج1، 2017، ص45-47.