لم يكن العراقيون يعرفون الطباخات التي تعمل بالغاز او السخانات الكهربائية، بل كانت كل احتياجاتهم تعتمد على الموقد النفطي المسمى عند العراقيين بـ(البريمز)، الذي انتج لأول مرة عام 1892 في مدينة ستوكهولم السويدية كأول موقد يعمل بالنفط وصممه وطوره السويدي فرانك ويلهام لنكويست وكانت علامته التجارية تحمل اسم (primus) وتعني "الأول" باللغة اللاتينية وهو اسم الشركة المصنعة له، وكما ان هذا الموقد قديم جدا فأن في كربلاء رجل مبارك وقف على عتبة التسعين من عمره قضى ستون عاما منها يصلح هذا البريمز وأجهزة اخرى وهو يعد اقدم مصلح في العراق.
في العهد الملكي
يسرد عبد الكريم إبراهيم عبد الكريم (ابو صباح) مواليد (1932) حياته لوكالة نون الخبرية، بقوله "اضطرتني الظروف بعد وفاة والدي الى ترك كربلاء المقدسة والعيش في بيت عمي في محلة الدوريين ببغداد في العام 1944 عندما كان عمري 12 عاما ودخلت بغداد في يوم مقتل الملك غازي بحادث اصطدام سيارته بعمود الكهرباء فاشتغلت في محل (رحيم) بسوق الهرج بمنطقة الميدان صانعا عند مصلح (بريمزات) واستطعت تعلم المهنة بسرعة واصبحت اسطة بها، وكانت اجور التصليح قليلة جدا، مثلا تبديل الشمعة بخمسين فلسا ورأس البريمز بمئة فلس والواشر بثلاثين فلسا، وفي العام 1948 حصلت ما تسمى بـ(وثبة كانون) ووقعت احداثا عسكرية واضطرابات في بغداد، فعدت مع عمي وعائلته للعيش في كربلاء المقدسة، فافتتحت محلا صغيرا لتصليح البريمزات في شارع المخيم الحسيني مقابل مقهى الصراف".
ويعدد (ابو صباح) انواع البريمزات المصنوعة من النحاس الاصفر (البرنج) حيث يجلبون الواح النحاس ويفصلون حوض البريمز ويقوم اسطوات سوق الصفافير بطرقها ولحمها، بقوله "اول نوع هو الهولندي ثم ابو البوري وجاء بعدها المصري العمودي ابو الشعلة الذي كان يصنع في مصر، والنوع الاخر هو مصنع محليا والذي يسمى (العفريت) وهو ذو لهب عالي وشديد الحرارة ويستخدم في الحمامات العامة والمخابز"، منوها الى ان "البريمزات تستخدم في البيوت والمطاعم والمخابز والحمامات التي كانت تعتمد على الحطب سابقا وانتقلت الى البريمزات بعد ان طرحت في الاسواق، ومن منافع البريمز هي الطبخ وغلي الماء في الحمام و صنع الشاي المقاهي وصنع الخبز والصمون في المخابز والافران واعداد الطعام في المطاعم".
السلبجة والصوبات
انتقل ابو صباح الى محل قرب باب الطاق عند حسينية الاذربيجانيين الان، وقام بصنع (السلبجة) النحاسية يدويا المكونة من الابريق و (اللكن) التي تماثل المغسلة في وقتنا الحالي بمعاونة اسطوات سوق الصفارين، وقام بتجيهزها الى بغداد ومحال كربلاء بطريقة تعبئة الصناديق المصنوعة من سعف النخيل بـ (24) قطعة سعر القطعة الواحدة دينار و750 فلس، واصحبت له سمعة كبيرة وتقصده كثير من العائلات الكربلائية من مختلف الطبقات، وكان ابرز الشخصيات المشهورة من الذين يجلسون عنده في المحل الشيخ هادي الكربلائي والوجيه عباس عوز، وابرز زبائنه من ربات البيوت واصحاب المقاهي، وتخرج من تحت يديه اربع اسطوات تصليح للبريمزات"، مبينا ان "السوق في نهاية الخمسينيات شهد ركودا وقلة في البيع والشراء فتحولت الى تصنيع قعادة للأطفال وتباع بخمسين فلسا وقمع النفط بعشرة فلوس وطرنبة سحب النفط وتباع بخمسين فلسا، وفي مطلع الستينيات دخلت الصوبات النفطية الاسطوانية المعروفة باسم (علاء الدين) وهي صناعة إنكليزية وكانت نوعية جيدة، وباشرت على الفور باصلاحها وكانت اجور تصليح الفتيلة ب750 فلس والجامة 100 فلس، ثم دخلت الصوبات الاسطوانية القصيرة مثل الفوجيكا والتوشيبا وبعدها الصالون العريض".
اللمبات واشياء أخرى
ويتابع حديثه عن "تحول الناس تدريجيا عن البريمزات حيث دخلت اللمبات ذات الفتائل الثلاثة وتحول أيضا لاصلاحها وصناعة اجزائها ثم تعلم العمل على ماكنة مخصصة لصنع (الداير) وهي عملية ثني اجزاء (اللمبة ام الفتايل) في ماكنة خاصة وكان يجهز محافظة كربلاء بها، وقام بجلب ماكنة ثني اللمبات وبدأ بتصنيع الجزء الاعلى المسمى (العطر) وتوزيعها على محال كربلاء وتسويقها الى بغداد في سوق باب الاغا المجهز الرئيس للمحافظات بصناديق تستوعب 24 قطعة وكان سعر الصندوق 21 دينار".
الفوانيس واللوكسات
مجال اخر دخل به (ابو صباح) هو اصلاح الفوانيس واللوكسات ويوصف الفانوس بقوله انه "مكون من مقطع معدني وحمالة وزجاجة وبداخله فتيلة وشبكة ومفتاح لرفع وخفض النار ومستوى الاضاءة التي يبعثها محدودة ويعلق في البيوت والمحال ومختلف الامكنة او يحمل باليد اثناء السير او التنقل، اما اللوكس فحجمه اكبر وخزان النفط فيه اوسع وشعلته اكبر ويعطي ضوءا ساطعا واستخداماته كثيرة، ويضحك (ابو صباح) عندما يتذكر انتهاء استخدامه من قبل الناس بعد دخول الكهرباء والعودة اليه مجبرين وبشدة بعد تسعينيات القرن الماضي عندما دمرت محطات الكهرباء في حرب غزو الكويت، حيث اصبح الزبائن يقفون بالطابور لاصلاح او شراء اللوكسات التي اشترى منها بالصدفة كمية كبيرة كـ(خردة) بعد انتفاء الحاجة لها في السبعينات ودخول الكهرباء، وكان يستورد المواد الاحتياطية لها من سوريا".
عرض مغري
يسرد ولده صباح عبد الكريم حادثة مهمة حصلت لوالده، بقوله "لما ذاع صيت والدي باصلاح البريمزات وصوبات علاء الدين افتتح احد الاشخاص معملا في بغداد نهاية العقد الستيني لتجميع صوبات علاء الدين وكان اصعب جزء فيها هو تنصيب معدات الشعلة والفتيلة التي تحتاج الى مهارة ودقة، واكتشف صاحب المعمل ان العاملين لديه لم يتمنكوا من اتمام العمل بصورة صحيحة وتسبب في اشتعال الصوبات فجاء الى والدي وقدم له طلبا مغريا جدا يتضمن عمله في المعمل كمشرف على العمال وتعليمهم كيفية ضبط الفتيلة والنار وعدم انبعاث الغاز منها مقابل مبلغ مادي كبير وسيارة مخصصة له تنقله من كربلاء الى بغداد وبالعكس يوميا، لكنه رفض الطلب رغم كل مغرياته وابلغ صاحب المعمل ان اصلاح بريمز او صوبة لشخص فقير افضل عندي الف مرة من الدنانير التي تريد إعطائها لي، وبهذا علمنا درس بليغ بالوفاء للمهنة والصدق فيها".