الثورة الصحيحة هي الاحتجاج النهائي الحاسم على الواقع المعاش ، فبعد أن تخفق جميع الوسائل الاُخرى في تطوير الواقع تصبح الثورة قدراً حتميّاً لا بدّ منه.
والقائمون بالثورة هم دائماً أصح أجزاء الاُمّة ؛ هم الطليعة ، هم النُّخبة التي لم يأسرها الواقع المعاش ، وإنّما بقيت في مستوى أعلى منه وإن كانت تدركه وتعيه ، وترصده وتنفعل به وتتعذّب بسببه.
تُصبح الثورة قدر هذه النُّخبة ومصيرها المحتوم حين تخفق جميع وسائل الصلاح الاُخرى ، وإلاّ فإنّ النُّخبة إذا لم تثر تفقد مُبررات وجودها ، ولا يمكن أن يُقال عنها إنّها نُخبة ، إنّها تكون نُخبة حين يكون لها دور تأريخي وحين تقوم بهذا الدور.
ولا بدّ أن تُبشر الثورة بأخلاق جديدة إذا حدثت في مجتمع ليس له تُراث ديني وإنساني يضمن لأفراده ـ إذا اتّبع ـ حياة إنسانيّة متكاملة ، أو تُحيي المبادئ والقيم التي هجرها المجتمع أو حرّفها إذا كان للمجتمع مثل هذا التُراث كما هو الحال في المجتمع الإسلامي الذي كانت سياسة الاُمويِّين المجافية للإسلام تحمله على هجر القيم الإسلاميّة ، واستلهام الأخلاق الجاهليّة في الحياة.
وتُوفر هذا الهدف في الثورة الصحيحة من جملة مقوّمات وجودها ؛ لأنّ العلاقات الإنسانيّة في الواقع علاقات مُنحطّة وفاسدة ، وموقف الإنسان من الحياة موقف مُتخاذل وموسوم بالانحطاط والانهيار ؛ ولذلك انتهى الواقع إلى حدّ من السوء بحيث غدت الثورة علاجه الوحيد وإذاً ، فالدعوة إلى نموذج من الأخلاق أسمى ممّا يُمارسه المجتمع ضرورة لازمة ؛ لأنّه لا بدّ أن تتغيّر نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى الآخرين وإلى الحياة ليمكن إصلاح المجتمع.
ولقد قدّم الحسين عليه السلام وآله وأصحابه ـ في ثورتهم على الحكم الاُموي ـ الأخلاق الإسلاميّة العالية بكلّ صفاتها ونقائها ، ولم يُقدّموا إلى المجتمع الإسلامي هذا اللون من الأخلاق بألسنتهم ، وإنّما كتبوه بدمائهم وحياتهم.
لقد اعتاد الرجل العادي إذ ذاك أن يرى الزعيم القبلي أو الزعيم الديني يبيع ضميره بالمال ، وبعرض الحياة الدنيا. لقد اعتاد أن يرى الجباه تعنوا خضوعاً وخشوعاً لطاغية حقير لمجرد أنّه يملك أن يُحرم من العطاء.
لقد خضع الزعماء الدينيون والسياسيون ليزيد على علمهم بحقارته وانحطاطه ، وخضعوا لعبيد الله بن زياد على علمهم بأصله الحقير ومنبته الوضيع ، وخضعوا لغير هذا وذاك من الطغاة ؛ لأنّ هؤلاء الطغاة يملكون الجاه والمال والنفوذ ، ولأنّ التقرّب منهم والتودّد إليهم كفيل بأن يجعلهم ذوي نفوذ في المجتمع وإن عليهم النعمة والرفاه. وكان هؤلاء الزعماء يرتكبون كلّ شيء في سبيل نيل هذه الحظوة. كانوا يخونون مجتمعهم فيتمالون مع هؤلاء الطغاة على إذلال هذا المجتمع وسحقه وحرمانه ، وكانوا يخونون ضمائرهم فيبتدعون من ألوان الكذب ما يدعم هذه العروش ، وكانوا يخونون دينهم الذي يأمرهم بتحطيم الطغاة بدل عبادتهم.
تابعونا في الحلقة التاسعة عشر