ولد العباس سنة ست وعشرين للهجرة أمه : فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة ـ أخي الشاعر لبيد بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة الكلابية ، واشتهرت بكنيتها : (أم البنين تزوج بها أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بإشارة من أخيه عقيل بن أبي طالب الذي كان عالماً بأنساب العرب ، فقد قال له : « انظر لي امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب لأتزوجها فتلد لي غلاماً فارساً » فأشار عليه بها )أم البنين ، وقد تزوجها بعد وفاة السيدة فاطمة الزهراء . أو بعد زواجه من أمامة بنت زينب بنت رسول الله ( ص ) وقد ولدت لأمير المؤمنين أربعة أولاد هم ؛ : العباس ( وهو أكبرهم ) وعبد الله ، وجعفر ، وعثمان . فهؤلاء هم بنوها ، وبهم تكنى ، فيقال : وقد استشهدوا جميعاً بين يدي أخيهم الإمام الحسين في كربلاء وقد عاش العباس مع أبيه الإمام علي أربعة عشر عاماً . وكان عمره يوم استشهد حوالي أربعة وثلاثين عاماً تزوج من لبابة بنت عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب ، وولد :. له منها ولدان ، هما : عبيد الله بن العباس بن علي ، والفضل بن العباس بن علي ، و به يكنى فيقال له : أبو الفضل العباس » .
كان أيداً ، فارساً ، طويل القامة « يركب الفرس المطهم ورجلاه ( تخطان في الأرض » ، شجاعاً ، وسيماً يلقب بـ « قمر بني هاشم » لجماله ، كما لُقّب في كربلاء وبعد استشهاده بـ « السقاء » و « أبي قربة » لأنه خاطر بنفسه في سبيل تزويد معسكر الحسين بالماء بعد أن ضرب عليه الجيش الأموي حصار العطش ، فأغار على الفرات أكثر من مرة جلب فيها الماء واستشهد في إحدى محاولاته هذه في اليوم العاشر من المحرم بعد أن قطعت يداه أثناء القتال وهو ممسك بقربة ملأها بالماء ليروي بها الأطفال العطاش كان حامل راية الحسين في كربلاء ، وكان موقعه في القلب عندما عباً الحسين أصحابه صبيحة اليوم العاشر من المحرم . واستشهد بعد إخوته الذين طلب منهم أن يتقدموه في القتال كان العباس ذا منزلة علمية . وقد ورد في شأنه عن أمير المؤمنين علي : ( إن ولدي العباس قد زق العلم زقاً » ) وورد في شأنه عن الإمام الصادق : « كان عمنا العباس نافذ البصيرة ، صلب الإيمان ، له منزلة عند الله يغبطه بها جميع الشهداء » ويبدو من الرجز المنسوب إليه ، وكان ينشده في المعركة التي استشهد فيها على ضفاف الفرات ، يبدو من هذا الرجز انه كان في أعلى مستوى من الوعي الإيماني ، فعلى الرغم من أنه يخوض معركة يقودها أخوه ضدّ أسرة معادية لأسرته ، لم يظهر في رجزه ظلّ لعاطفته الشخصية ، وإنما عبر فيه عن قيمة دينية يجسده الحسين أخوه بكونه إماماً .
قال : والله إن قطعتم يميني إني أحامي أبداً عن ديني وعن إمام صادق اليقين نجل النبي الطاهر الأمين ويتميز العباس عن جميع الشهداء من الهاشميين وغيرهم بقبر مستقل شيد عليه مشهد عظيم .
ورد ذكر العباس في جميع شعر الرثاء الذي قيل في كربلاء باعتباره أحد أبرز الشهداء مقاماً بعد الحسين أو أبرزهم على الإطلاق وأنشأ فيه شعراء الشيعة المتأخرون مراثي خاصة وله في المأتم الحسيني مركز خاص ، فيذكر بتكريم خاص ويحظى بشرح كامل لسيرة حياته وشهادته ، وتخصص له مآتم خاصة في عاشوراء فقد اعتاد خطباء المنبر الحسيني في العراق أن يتحدثوا عنه في ليلة اليوم السابع من شهر محرم ويتمتع العباس بحضور قوي جداً في الوجدان الشعبي عند الشيعة العراقيين والإيرانيين ، ينعكس بشكل واضح في الإقبال الشديد والكثيف على زيارة قبره يتبوأ العباس مركزاً خاصاً في الزيارة ، فإن ذكره يرد مقروناً بالسلام عليه وتمجيد موقفه في كل زيارة من زيارات الإمام الحسين تقريباً كما وردت عن أئمة أهل البيت زيارات خاصة به نذكر فيما يلي نموذجاً منها ما رواه أبو حمزة الثمالي عن الإمام الصادق عليه السلام قال : قال الصادق عليه السلام : « إذا أردت زيارة قبر العباس بن علي عليهما السلام ، وهو على شط الفرات بحذاء الحائر فقف على باب السقيفة وقل : ۱ - « سلام الله ، وسلام ملائكته المقربين ، وأنبيائه المرسلين ، وعباده الصالحين ، وجميع الشهداء والصديقين ، والزاكيات الطيبات فيما تغتدي وتروح ، عليك يا ابن أمير المؤمنين أشهد لك بالتسليم والتصديق والوفاء والنصيحة لخلف النبي المرسل والسبط المنتجب والدليل العالم ، والوصي المبلغ والمظلوم المهتضم فجزاك الله عن رسوله ، وعن أمير المؤمنين.
وعن الحسن والحسين صلوات الله عليهم أفضل الجزاء بما صبرت واحتسبت وأعنت ، فنعم عقبى الدار لعن الله من قتلك . ولعن الله من جهل حقك واستخف بحرمتك . ولعن الله من حال بينك و بين ماء الفرات » .
من خلال السلام بهذه الصيغة ، تظهر الزيارة الفئة التي ينتمي إليها العباس ، فهو ينتمي إلى فئة الملائكة والأنبياء والشهداء والصديقين وتأتي الشهادة التالية لمقطع السلام لتبين المبررات لانتماء العباس إلى هذه الفئات من عباد الله الصالحين : فهو مسلم ، مصدق ، وفي ، ناصح للإمام الحسين ، أي أنه وفي بالتزامه الإيماني النابع من كونه مسلماً مخلصاً ، لأن الحسين هنا ليس أخاً ، إنه قائد الإسلام وينتهي هذا المقطع من الزيارة بالدعاء للعباس بأن يحسن الله جزاءه على موقفه العظيم . ثم البراءة باللعن ، من أعدائه ، أعداء الشرعية ، ويبرز في هذا المقطع دور العباس المميز في كربلاء الذي لازم ذكراه في الوجدان الشعبي وهو كونه أبرز المعنيين بتزويد معسكر الحسين الظامئ بالماء ۲ - ( أشهد أنك قتلت مظلوماً وأن الله منجز لكم ما وعدكم . جئتك يا ابن أمير المؤمنين وافداً إليكم ، وقلبي مسلم لكم ، وأنا لكم تابع ، ونصرتي لكم معدة حتى يحكم الله وهو خير
الحاكمين ؛ فمعكم معكم ، لا مع عدوكم . إني بكم وبإيابكم من المؤمنين ، وبمن خالفكم وقتلكم من الكافرين . قتل الله أمة قتلتكم بالأيدي والألسن » في هذا المقطع يشهد الزائر بعدالة القضية التي من أجلها استشهد العباس لأنه قتل مظلوماً ولذا فإن قاتليه ظالمون . ولكن الزائر غير يائس بسبب النتيجة التي انتهى إليها نضال العباس ، إنه واثق بنصر الله و بقيام دولة الحق والعدل . ويعلن الزائر إلتزامه بنفس الخط النضالي الذي سار عليه العباس وعليه مات ، كما يعلن براءته من الخط المقابل ، خط الظالمين الذي سار عليه الأمويون ـ « السلام عليك أيها العبد الصالح المطبع لله ولرسوله ولأمير المؤمنين والحسن والحسين عليهم السلام . السلام عليك ورحمة الله وبركاته ورضوانه وعلى روحك وبدنك أشهد وأشهد الله إنك مضيت على ما مضى عليه البدريون المجاهدون في سبيل الله الناصحون له في جهاد أعدائه ، المبالغون في نصرة أوليائه ، الذابون عن أحبائه ، فجزاك الله أفضل الجزاء وأكثر الجزاء وأوفر الجزاء وأوفى جزاء أحد ممن وفي ببيعته ، واستجاب له دعوته ، وأطاع ولاة أمره .
وأشهد أنك قد بالغت في النصيحة ، وأعطيت غاية المجهود ، فبعثك الله في الشهداء ، وجعل روحك مع أرواح الشهداء وأعطاك من جنانه أفسحها منزلاً ، وأفضلها غرفاً ، ورفع ذكرك في عليين ، وحشرك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا أشهد أنك لم تهن ولم تنكل ، وأنك مضيت 6 على بصيرة من أمرك مقتدياً بالصالحين فجمع الله بيننا وبينك وبين ومتبعاً للنبيين رسوله وأوليائه في منازل المخبتين ، فإنه أرحم الراحمين ) في هذا المقطع يستهل الزائر خطابه بالسلام والدعاء الذي يظهر فيه عنصر الطاعة الإيمانية التي تنبع من إدراك الواجب الشرعي والإلتزام به ويتلو السلام والدعاء الشهادة من الزائر بأن هذه الطاعة لم تكن شكلية ، وإنما عبرت عن نفسها بالإلتزام العملي . وهنا تظهر فئه أكثر تحديداً ينتمي إليها العباس ، وهي ذات أثر حاسم في مسيرة الإسلام وهي « البدريون » ، وهؤلاء يحتلون أسمى مرتبة في قوافل الشهداء الكرام الذين رزقوا الشهادة بين يدي رسول الله ( ص ) ثم الشهادة بأن العباس في جهاده قد تجاوز المستويات المفروضة عليه بحكم كونه مسلماً مطيعاً إلى مستوى أعلى من ذلك هو كونه قد بالغ في النصيحة وأعطى غاية المجهود » ثم الشهادة له بأنه مارس دوره العظيم في كربلاء ، مصمماً على المضي فيه إلى النهاية ، عن وعي مبدئي ، فإيمانه إيمان واع وليس إيماناً أعمى لأنه ليس في الإسلام إيمان أعمى : « .. إنك مضيت على بصيرة من أمرك » ولذا فإنه في موقفه الأخلاقي العالي الذي حقق به أعلى مستويات الأخلاقية الإسلامية في تجاوز الذات (1) إنه في هذا الموقف « لم يهن ولم ينكل » وهذا الثبات في المواقف هو نتيجة الوعي « البصيرة » (٢) .
٤ ـ « روى أبو حمزة الثمالي عن الإمام الصادة أنه قال : إذا ودعت العباس فأته ، وقل : أستودعك الله وأسترعيك ، وأقرأ عليك السلام . آمنا بالله وبرسوله وبكتابه وبما جاء به من عند الله . اللهم فاكتبنا مع الشاهدين . أللهم لا تجعله آخر العهد من زيارة قبر ابن أخي نبيك ، وارزقني زيارته أبداً ما أبقيتني ، ومع آبائه في الجنان . اللهم واحشرني معه وعرف بيني وبينه وبين رسولك وأوليائك أللهم صل على محمد وآل محمد ، وتوفني 6 والتصديق برسولك على الإيمان بك والولاية لعلي بن أبي طالب والأئمة من ولده ، 6 والبراءة من عدوهم ، فإني قد رضيت بذلك يا رب (۳) صيغة الوداع هذه تكشف عن عمق الصلة العاطفية والمبدئية بين الزائر وبين العباس ، فهو مرتبط بالعباس برباط الحب الناشئ عن كونهما ملتزمين مبداً واحداً يمثل العباس فيه دور النموذج المحتذى
(۱) لاحظ كتابنا بين الجاهلية والإسلام طبعة دار الكتاب اللبناني - ١٩٧٥م ، فصل ( الأخلاق).
(۲) لاحظ كتابنا، أنصار الحسين، دار الفكر - بيروت - ۱۹۷۵ - فصل ( النخبة ( ص ١٦٥ - ١٧٠ فقيه بحث عن ( أهل البصائر)
(۳) كامل الزيارة ، باب : ٨٥ و ٨٦ . ص : ٢٥٦ - ٢٥٨ .
المصدر / ثورة الحسين في الوجدان الشعبي الشيخ محمد مهدي شمس الدين