رغم أن التاريخ قد كتب بدماء الشهداء، إلا أن هناك من أراد أن يكتبه بالحبر المزوّر، فبعد جريمة كربلاء، حاولت ماكينة التضليل الأموي صناعة رواية "البراءة السياسية" ليزيد بن معاوية، وكأن الإمام الحسين "عليه السلام" قُتل بلا آمرٍ ولا مسؤول، أو على يد “اجتهادات خاطئة” من عبيد الله بن زياد.
هذا التزوير لم يكن عفوياً ولا ساذجاً، بل كان محاولة ممنهجة لمسح دم الحسين من على وجه الدولة الأموية، وتقديم يزيد على أنه بريء حزين، لم يأمر ولم يرضَ.
ففي رواية صريحة ومؤلمة، يروي "ابن أعثم الكوفي" تفاصيل ما بعد الجريمة، بالقول إنه "بعد قتل الإمام الحسين، أرسل يزيد إلى عبيد الله بن زياد جائزة مالية ضخمة قدرها مليون درهم، ولم يكن هذا فحسب، بل اشترى ابن زياد قصرين فاخرين هما (الحمراء والبيضاء) ببذخ فاحش، وعاش مرفّهاً بعد جريمة القرن، وكأن الدماء التي سالت على الثرى قد فُتحت بها أبواب القصور".
بل يروي "ابن أعثم" حواراً خطيراً بين ابن زياد وأحد خواصه حين قال له: “لعلك نادم على قتل الحسين؟”، فأجابه ابن زياد بصفاقة: “ما أخطأت! جاء يريد قتلي فقتلته!”، فهل بعد هذا التصريح مجال للشك في أن جريمة كربلاء كانت بتخطيط وموافقة سياسية من رأس الدولة الأموية؟
وعلى الرغم من هذه الأدلة، واصل أتباع الخط الأموي عبر العصور حملة تبرئة يزيد بن معاوية، عبر فتاوى وأقوال تُشبه السكاكين المغلفة بالمسك، منهم الغزالي (ت 505هـ)، وابن الصلاح (ت 643هـ)، وابن تيمية (ت 728هـ)، وابن كثير (ت 774هـ)، حيث زعموا أن يزيداً لم يأمر بقتل سبط رسول الله "صلوات الله عليهما"، وإنما كان الأمر برمّته من تخطيط وتنفيذ عامله على الكوفة، عبيد الله بن زياد.
بل أن آخرين أقدموا على طرح فتاوى أكثر تطرفاً منهم ابن العربي وابن خلدون، والذين إدعوا أن الحسين قُتل بسيف جده، فيما أفتى محمد أبو اليسر عابدين (مفتي الشام)، بأن "بيعة يزيد شرعية والحسين باغٍ"، أما المؤرخ المصري "محمد الخضري"، فقد زعم أن "خروج الحسين كان خطأً عظيماً زعزع وحدة الأمة".
أما بعض الغلاة من الطائفيين، فقد وصل بهم الأمر إلى القول إن "يزيد من الصحابة أو الخلفاء المهديين، بل ومن الأنبياء"، لتتحول بذلك الجريمة إلى اجتهاد، والقاتل إلى مظلوم، والدماء الطاهرة إلى فتنة مزعومة!
يذكر أن هذه الحملة المسمومة لم تمر دون تصدٍّ علمي شجاع من كبار العلماء، والذين كان منهم ابن الجوزي (ت 597هـ) الذي ألّف كتاباً كاملاً في جواز لعن يزيد، بعنوان "الرد على المتعصب العنيد"، والعلامة الجليل "أبو الثناء الآلوسي" الذي دحض بالأدلة كل حجج المانع من لعن يزيد، فيما فصّل الشيخ باقر شريف القرشي، تفنيد تلك الأكاذيب في كتابه "حياة الإمام الحسين".
وقد أجمع هؤلاء العلماء الأعلام على أن تبرئة يزيد ليست مجرد خطأ علمي، بل هي جريمة تاريخية أخلاقية، تغطي على أبشع مذبحة في الإسلام، وتكافئ القاتل بعد موته، كما كافأه يزيد في حياته.
المصدر: عبد الأمير عزيز القريشي، أصحاب الإمام الحسين بين الحقيقة والتشكيك – جدلية العدد، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، 2022، ص39-45.