بقلم : د.أمل محمد الأسدي/جامعة بغداد
قال تعالى في سورة المرسلات:((انطَلِقُوا إِلَىٰ مَا كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ ۞انطَلِقُوا إِلَىٰ ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ ۞لَّا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ ۞إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ ۞كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ ۞وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ )) الآيات: 29- 34
هذه الآيات وردت في بيان مشهد من مشاهد القيامة، فقد بين لنا القرآن الكريم مشاهد الجنة وأهلها، وبيّن لنا كذلك مشاهد أصحاب النار، ففي سياق هذه الآيات يأمر الله المجرمين الذين نزلت بهم العقوبة باستحقاقهم ،وبما أجرموا في حياتهم الدنيا، وبتمسكهم باللهو الزائف والنعم الزائلة، فيخاطبهم بفعل الأمر: ( انطلقوا) ويكرره مرتين، ( انطلقوا الى ماكنتم تكذبون به) إذ كانوا يكذبون بيوم الحساب، ويكذبون بوجود الجنة والنار!!
إذن المشهد مضطرب ومتحرك بدلالة فعل الأمر المكرر، ( انطلقوا) الى( ظل ذي ثلاث شعب) فالمشهد يصور لوحة ظلية ثلاثية، عن يمينهم وعن شمالهم ومن فوقهم، إلا أن هذا الظل الظليل، هو من الدخان المتصاعد من ألسنة اللهب، فهو لا يغني، ولايحمي ؛ بل هو يدل على الإحاطة بهم من كل جانب.
وقد دارت معاني المفسرين على أن تصاعد النار الشديد ،يشبه القصر،والقصر هو البنيان العالي، ثم هذا القصر كـ( الجمالات ) والجمالات : جمع جمل، كجمع رجل ورجال ورجالات، وهي تعني النوق السود!!
إن المتأمل في صورة هذا المشهد يجد فيه ثلاث حركات : الحركة الأولى انطلاق الكفار افقيا ،مسرعين الى هذا الظل الظليل!!
الحركة الثانية: اندلاع ألسنة النيران عموديا، ومن ثلاث جهات، اليمين والشمال والأعلى!
الحركة الثالثة، انطلاق الشرر من هذه النيران، وبما أن مصادر النيران ثلاثة، فارتفعت ثلاثة أعمدة من الشرر ، شكّلت ما يشبه ارتفاع القصر، أو نهاية القصر المدببة أو المحدبة!
إن هذا المشهد يقوم على تشبيهين : الأول هو تشبيه شرار النار بأنه كالقصر( انها ترمي بشرر كالقصر) والتشبيه الآخر مبني على الأول، وهو ( كأنه جمالات صفر) فالـ( جِمالة و جُمْل ،و جِمالات و جُمَالات و جَمالات و جمائل هي النوق والنياق، و الجمالة هي مجموعة من النوق السود التي تعلوها الصفرة، وكذلك: الجَمَلُون : سَقْفٌ مُحَدَّبٌ على هيئة سَنَام الجَمل، فبعد تصاعد ألسنة النار العظيمة ،بشكل عمودي ثلاثي يشبه القصر العالي، تحولت حركة الشرار الثلاثية المتصاعدة الى حركة أفقية، مما شكّل سقفا عاليا معقوفا يشبه سنامات النوق المجتمعة، ولونها الأصفر يشبه صفرة تلك النوق!!
فانظروا أيها المكذبون الضالون، فكما كنتم تستمتعون بالقصور الفارهة العالية ،وتستظلون بها، اليوم سيوافيكم الله جزاءكم ، ويخلق لكم قصورا من نار جهنم!!
وإذا ما أخذنا بنظر الاعتبار ، أن مفردة الجمال تعني: ( الجمل، الحبل الغليظ) فحينها يمكن أن ينهض المشهد باللوازم نفسها، فالشرار المتصاعد كالقصر، يتحول بعدها الى ما يشبه الحبال الغليظة المرتفعة نتيجة تطاير الشرار ، وفي كلا الوجهين، يقدم لنا النص مشهدا من مشاهد يوم القيامة، كي يتعظ البشر ، وكي ينتقل متلقي النص الى حيث هذا المشهد المخيف، علّه يرجع أو يتراجع عن غيّه، فالقصور الدنيوية تمهد لقصور أخروية، فإما ان تكون هذه القصور خضراء منعمة، او تكون صفراء ملتهبة.
ولعل معنى آخر يمكن رصده من المشهد وهو: أن تشبيه الشرر بالقصر ،أُريد به حجم اللهب وضخامته، بينما أريد من التشبيه بالـ( جمالات الصفر) شكل الشرر المتصاعد من هذا اللهب! وفي كل الأحوال تضافرت العناصر النصية في تجسيد هذا التشبيه المركب الذي صور لنا مشهدا من مشاهد يوم القيامة
والله أعلم.