بقلم الكاتب المصري خالد الشناوي
قضيت على أعتاب آل البيت "عليهم السلام" ما يزيد على عشرين عاماً، محاولا أن أتعلم من دخائلهم وأتفهم إنسانيتهم في حياتهم الدنيا، وكيف أن هذه الجموع الغفيرة من البشر تتزاحم لزيارة مراقدهم الشريفة فوجاً إثر فوج وجيلاً بعد جيل!
بدأت الصعود الى جبال كلماتهم والتنزه في حدائق شخصياتهم والعدو في البراري لأرى قيمة شجاعتهم وأخلاقهم الكريمة.
عندئذ اقتحمت الرابية والجبل لأضرم نارا في حطب تعبيري، أمشي مشية العارف وليس الحائر الذاهل، أحتاج العربية والتاريخ كي يأخذا بذراعي وقلمي.
منذ أيام قليلة ترجلت بي الخطوات نحو المشهد الحسيني في قاهرة المعز لدين الله الفاطمي وكان المسجد مغلقاً لظروف الجائحة والتي تمر بها البلاد، فتوجهت ناحية الباب الأخضر -باب دخول الرأس الشريف حين قدم إلى مصر- واقفاً خارج الحاجز الحديدي متنسماً أريج الذكريات راجعاً إلى عبق التاريخ .
ساعة من الوقت واقفاً مرّت بي وكأنها لحظات معدودة، عادت بي الروح وسافرت وكأنها تشاهد إستشهاد الحسين ورفاقه، قفلت الروح راجعة من خيالها وهي مثقلة بكل جراحات التاريخ وآلامه وسهامه ومواجعه، وكأنها تستمع إلى الإمام في ميدان المعركة وهو ينادي:
"إني لا أرى الموت إلاّ سعادة والحياة مع الظالمين إلاّ برماً"
هيهات منا الذلة!
عادت المشاهد الدامية وعاد معها الشوق والحنين، والدمع والأنين، فنستعيد معها صبر العقيلة زينب وعزيمة الحسين، وإيثار أبي الفضل العباس وشجاعة علي الأكبر وتضحية كل تلك الصفوة الطاهرة من أصحاب الحسنين.
ولكنّ هل لنا أن نرى في تلك الفاجعة قيمةً إضافية أخالها غائبة أو مغيّبة عن قاموسنا الإسلامي وهي قيمة الحب؟ هل لنا أن نرى فيها غير الدماء والأشلاء؟
أو قل: هل لنا أن نرى الحب في وسط الدماء والأشلاء؟
بكل تأكيد يمكننا أن نرى ذلك، وأن نتعلم الحبّ في مدرسة آل البيت لأنّ كربلاء ليست مدرسة للحقد والكراهيّة ولا لإثارة الغرائز وإيقاد الفتن، وإنما هي مدرسة نتعلم منها كل المعاني السامية وعلى رأسها قيمة الحب الإنساني والعشق الإلهي.
تعود رحلة نقل رأس "الحسين" بمصر إلى قصة طويلة، عندما تزيّنت مصر وتجملت وأضيئت المصابيح شوقاً لحضور رأس "الحسين" حفيد رسول الله "صلى الله عليه وآله وسلم".
فعندما جاءت الحملات الصليبية إلى بلاد العرب وكانوا ينبشون القبور المعظمة عند المسلمين خشي الوزير الفاطمي ذو الكلمة النافذة حينها الصالح "طلائع بن زريك" على الرأس الشريف للإمام الحسين أن يمسّها الصليبيون بسوء، فأوعز النصح للخليفة الفائز وأجزل في نصحه له بالتفاوض مع بلدوين الثالث قائد الحملة الصليبية على عسقلان بدفع مبلغ مالى كبير مقابل الحصول على الرأس الشريف وإعادة دفنه بمصر.
وبالفعل تمّ الأمر وذهب الأمير الأفضل ابن قائد الجيوش "بدر الدين الجمالي" إلى عسقلان ووقف على قبر الإمام الحسين حتى استقر عند الرأس الشريفة فحمله على صدره من عسقلان فى يوم الأحد الثامن من جمادى الآخر لتصل يوم الثلاثاء العاشر من نفس الشهر الموافق العام 548 هجرياً الموافق 31 أغسطس عام1153 ميلادياً.
وقد سار به في موكب مهيب تقشعر له الأبدان وتخلج له جنبات الصدور وينتشي بعزته كل فخور فرحاً بنقل الرأس الشريف إلى مصر المحروسة التي كانت وستظل إلى أبد الآبدين كنانة آل بيت رسول الله في الأرض.
وتقديراً وحباً من المصريين لأهل البيت وللإمام الحسين "رضي الله عنه" إستقبل المصريون الرأس الشريف للإمام الحسين عند وصوله لمصر بخلع نعالهم حتى لم يكن بينهم مرتدٍ لنعله.
وما مرّ الرأس الشريف بقرية أو بلدة إلا وإستقبله المصريون بالورود والعطور والفرح والبشر والسرور، ومن كرامات وصول الرأس الشريف انتشار رائحة المسك منه في كافة الأرجاء التي مرّ بها حتى أن الحارة المجاورة لمسجد الصالح "طلائع" والتي مرّ بها الرأس الشريف لتدخل ساحة المسجد الذي دفن بها الآن فإذا بأهالى الحارة يستنشقون عبير المسك فى بيوتهم وأمتعتهم، ومنذ هذه اللحظة وحتى يومنا هذا يطلق عليها الجميع حارة المسك.
وقد أجمع المؤرخون وكتُّاب السيرة على أن جسد الحسين "رضوان الله عليه" دفن في مكان مقتله في كربلاء، وأما الرأس الشريف فقد طافوا به حتى إستقر بعسقلان الميناء الفلسطيني حتى نقل إلى مصر.
وقبل سنوات طوال في عهد الخديوي إسماعيل حدثت فتنة عند تجديد المسجد الحسيني حول حقيقة وجود رأس الإمام الحسين في مصر، فشكّل الأزهر الشريف لجنةً من ثلاثة علماء ثقات، ونزلوا إلى حجرة الدفن التي بها الرأس الشريف للإمام الحسين، بعد أن وضعوا ستاراً على القبر، ودخلوا القبر وخرجوا وعيونهم شاخصة، وهم يرددون "هو.. هو.. هو"، وعرف أنهم شاهدوا رأس الإمام الحسين وكأنه قُتل منذ ساعات، وتفوح من دمائه التي تسيل رائحة المسك، وهذا ما أكدته من قبل روايات لمشايخ الأزهر الشريف كالشيخ الشبراوي، وروايات الإمام المحدث المنذري والحافظ بن دحية والحافظ نجم الدين الغيطي والإمام مجد الدين بن عثمان والإمام محمد بن بشير والقاضي محيي الدين بن عبد الظاهر والقاضي عبد الرحيم وعبد الله الرفاعي المخزومي وابن النحوي والشيخ القرشي والشيخ الشبلنجي والشيخ حسن العدوي والشيخ الشعراني والشيخ المناوي والشيخ الأجهوري وأبو المواهب التونسي وغيرهم.
ومؤخراً شهادة فضيلة الشيخ منصور الرفاعي عبيد وكيل أول وزارة الأوقاف الأسبق والمنتشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي مع الإعلامي الكبير "طارق علام" حول نزوله والمهندس المعماري "عمر الفاروق" ولجنة من الأزهر الشريف إلى برزخ الإمام الحسين أسفل مقصورة الضريح ورؤيتهم للرأس الشريف على حالتها لم تتغير ورائحة المسك تفوح من حولها ومغطاة بقطعة من القماش الأخضر.