قدّم الأستاذ عبد الأمير القريشي في كتابه التوثيقي "أصحاب الإمام الحسين بين الحقيقة والتشكيك... جدلية العدد"، صدمة تاريخية أخرى تهدم الروايات المزوّرة التي حاولت عبر القرون أن تُضخّم مشهد الطف وتُلبسه ثوب “الآلاف” من المقاتلين مع الإمام الحسين (عليه السلام).
لكنّ الوثائق والمصادر المتضافرة التي اعتمدها القريشي قد كشفت بوضوح أن العدد الحقيقي لم يكن يتجاوز المئة والخمسين مقاتلاً في أفضل الأحوال، وأنّ القول بمشاركة الآلاف لا سند له في التاريخ ولا في منطق المرويات المعتبرة.
أول هذه الحقائق الموثقة هي ما اتفق عليه المؤرخون والشخوص الحاضرون في الموقعة على أن عدد أصحاب الإمام يوم عاشوراء تراوح بين (72) و(145) مقاتلاً فقط، حيث يؤكد المؤلف أن ما وصفه بـ “التسالم التاريخي” بين أرباب المقاتل والمصادر المختلفة يُغلق الباب أمام أي تكهّنات أو استحسانات شخصية، انطلاقاً من القاعدة الأصيلة.
أما الحقيقة الأخرى الواردة في الكتاب، فهي المبدأ القائل بـ "لا تاريخ بلا وثيقة"، وبذلك، فإن الرقم (145) يمثل الحد الأعلى الذي ورد في بعض الروايات، بينما الرقم (72) هو الأقرب إلى الحقيقة طبقاً لتواتر الأخبار وشهادة شهود العيان.
كما نقل القريشي الرواية المشهورة التي تواترت بين كبار المؤرخين والتي نصّها "عبّأ الحسين أصحابه، وصلّى بهم صلاة الغداة، وكان معه اثنان وثلاثون فارساً، وأربعون راجلاً، فجعل زهير بن القين في الميمنة، وحبيب بن مظاهر في الميسرة، وأعطى رايته العباس بن علي".
ويُبيّن المؤلف أن هذا القول يتفق مع ما أورده كبار المؤرخين مثل الطبري، والدينوري، واليعقوبي، والخوارزمي، بل إن هذه الروايات تعود إلى شهود عيان حضروا المعركة مثل الضحّاك بن عبد الله المشرقي، الذي قاتل مع الإمام (عليه السلام) ونقل ما رأى إلى أبي مخنف، أحد أوثق رواة كربلاء في القرن الثاني الهجري.
ومن بين الحقائق الأخرى الدالة بصحة ما ذكر، هو "التواتر"، حيث يوضح الكتاب أن الخبر المتواترهو ما يرويه جمع عن جمع في جميع الطبقات حتى يستحيل تواطؤهم على الكذب، فيفيد العلم بالضرورة، وهكذا، فإن روايات العدد (72) قد بلغت من الكثرة والانتشار ما يجعلها حجة قاطعة أمام كل محاولات التضخيم التاريخي أو التحريف الدعائي.
تجدر الإشارة إلى أنّ اجتماع هذه المصادر من عصور مختلفة، مع تنوع بيئاتها المذهبية والسياسية، يجعلها في مصاف الأخبار المتواترة التي يمتنع تواطؤ رواتها على الكذب، مما يدل بالتالي على إن كربلاء لم تكن حشداً من الجيوش، بل ميداناً لأقل من مئة وخمسين مقاتلاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فخلّدهم التاريخ وأبقى الباطل في ظلال النسيان.
المصدر: عبد الأمير عزيز القريشي، أصحاب الإمام الحسين بين الحقيقة والتشكيك – جدلية العدد، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، 2022، ص101-102.