من بين أبرز تلك المكتبات مكتبة السيد "أبو القاسم الخوئي"، ومكتبة السيد "عبد الحسين الحجة"، ومكتبة السيد "مرزا علي الشهرستاني"، ومكتبة السيد "علي البغدادي"، وكلها كانت تضم نفائس من المخطوطات الفقهية والأدبية والتاريخية، ومع رحيل أصحابها، لم يبقَ منها سوى الذكر والندم على ثروة معرفية تفرقت بين مكتبات العالم وتجار النوادر.
وتبرز أيضاً مكتبة "غلام علي آغا جان" التي اشتهرت باحتوائها على كتب مخطوطة في علوم الطب القديم، بينها مؤلف نادر في الطب من تأليف صاحبها نفسه، إلا أن هذه الكنوز ضاعت بالكامل، لتختفي معها صفحات كانت شاهدة على مستوى علمي رفيع في زمنها.
أما مكتبة "الحجة السيد محمد الكاشاني"، والد آية الله السيد "زين العابدين الكاشاني"، فقد كانت هي الأخرى إحدى المكتبات المهمة في كربلاء، لكنها بيعت عام 1369هـ، ليخرج جزء كبير من تراث الأسرة الكاشانية إلى المجهول.
وبرغم هذا النزيف الثقافي، فإن كربلاء لم تفقد روحها المعرفية، فقد ظهر عدد من العلماء المعاصرين الذين أدركوا حجم المسؤولية الملقاة عليهم، فنهضوا لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من تراث السلف، وهكذا تأسست مكتبات عامة استطاعت أن تجمع ما يقع في متناول اليد من مخطوطات قديمة، في محاولة واعية لحماية ما تبقى من الذاكرة الورقية للمدينة.
وفي مقدمة هذه المشاريع برز المشروع الثقافي الإسلامي الكبير الذي حمله الإمام المجاهد آية الله العظمى السيد محسن الطباطبائي الحكيم (قدس سره)، والذي أسس مكتبة آية الله الحكيم العامة، كإحدى أكبر المكتبات الشيعية في العالم، وبعد سنوات قليلة من تأسيسها، تفرّع عنها أكثر من سبعين فرعاً في البلدان العربية والإسلامية، لتتحول إلى صرح معرفي ضخم يضاهي المكتبات العراقية الكبرى من حيث نوادر المخطوطات وقيمة المطبوعات.
وكان الإمام الحكيم قد وضع خطة محكمة لجمع التراث العلمي، تقوم على شراء كل ما يظهر في السوق من المخطوطات مهما بلغت تكلفتها، وحفظها في خزائن المكتبة، وقد كلف بذلك عالماً خبيراً بالمخطوطات هو الشيخ "محمد الرشتي"، الذي لم يكتف بهذا الدور، بل أهدى مكتبته الشخصية بكل ما تحويه من مخطوطات نادرة إلى المكتبة، لتُعرض في جناح خاص يحمل اسمه.
وهكذا، تتجلى اليوم قصة مكتبات كربلاء المندثرة بمشهدين متقابلين، أولهما أصالة اندثرت مع أصحابها، وثانيهما نهضة حديثة أعادت للمدينة بعضاً من مجدها الورقي، في صراع دائم بين الاندثار والحفظ، وبين الفقد والبعث.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية الشَامِلَةُ، المحور التاريخي، قسم التاريخ الحديث والمعاصر، 2020، ج3، ص1-2.