منذ آلاف السنين ظلّ الفرات في كربلاء المقدسة أكثر من مجرد نهر، بل كشاهد حيّ على تحولات الأرض، وصراعات الملوك، وذاكرة الأزمنة.
ويكشف المؤرخون عن مسارات متعدّدة للنهر عبر العصور، تركت لكل حقبة اسماً خاصاً وملامح مختلفة شكّلت هوية المنطقة، خصوصاً في طف كربلاء حيث تستيقظ روايات الماء والدمع والقداسة.
ووفقاً للمصادر التأريخية، فإن مسار النهر لم يكن ثابتاً، إذ اتخذ اتجاهات متعددة في مراحله القديمة، الأمر الذي أوجد أسماءً متنوعة لكل فرع حسب الزمن الذي مرّ به، ومن أبرز تلك التحولات ما قام به "سابور ذو الأكتاف" عندما سيطر على الديار العراقية بين عامَي (309–379م)، حيث حفر خندقاً دفاعياً واسعاً في برية الكوفة، شُيّدت عليه المناظر والجواسق، واتخذ مساراً يمتد من ضفاف هيت حتى الكاظمة قبل أن يصب في الخليج، بامتداد بلغ نحو (900) كيلومتر.
وفي موازاة هذا الخندق، كان الفرات يتشعب قرب الأنبار إلى فرعين، عُرف أولهما بـ "كوثا القديم" أو "نهر سورا"، وهو المجرى الرئيس الذي ظل قائماً حتى الفتح الإسلامي، فيما اتجه الفرع الثاني نحو الجنوب الغربي مارّاً بطف كربلاء، ليصبح أحد أهم روافد الحياة فيها، وقد عُرف بأسماء متعددة، منها بلاكوباس، و مارساس، ثم أصبح يعرف عربياً باسم "النهر الكوفي"، قبل أن تستقر تسميته في المصادر المتأخرة بـ "نهر العلقمي".
وتؤكد المصادر هذا الامتداد، إذ نقلت الروايات عن الإمام الصادق (عليه السلام) دعوته لزوّار جدّه الإمام الحسين (عليه السلام) بالاغتسال عند الفرات قبل الزيارة، كما يذكر المؤرخون أن الحر الرياحي قال للإمام يوم نزوله كربلاء: «انزل ههنا والفرات منك قريب»، مما يدل بوضوح على أن النهر كان يخترق أرض الغاضرية، المنطقة التي شهدت وقائع الطف.
كما تشير سجلات الجغرافيين إلى أن الأرض بين خندق سابور غرباً وبين مجرى بلاكوباس شرقاً كانت تُسمى "طسج النهرين"، تعبيراً عن غنى المنطقة بالمياه المتفرعة من الفرات.
لكنّ هذا المجرى التاريخي تعرّض للطمي نتيجة الترسبات المتكررة خلال مواسم الفيضانات، مما دفع أمّ الخلفاء "الخيزران" في العصر العباسي إلى إعادة حفر نهر جديد انطلاقاً من الأنبار من الضفة اليمنى للفرات، حيث تذكر المصادر أن هذا المشروع عُرف باسم "نهر محدود"، وقد نُسب لاحقاً إلى رجل من بني علقمة، في حين يرى مؤرخون آخرون أن النهر أخذ اسمه من كثرة نبات الحنظل أو (العلقم) على ضفافه.
وتعزز ذلك روايات كبار مؤرخي القرن الرابع الهجري، مثل الشهيد وابن طاووس، الذين أشاروا في كتب الزيارات إلى قنطرة العلقمي التي كان يعبرها الزائرون في طريقهم إلى مرقد الإمام الحسين (عليه السلام).
وهكذا يظلّ شاطئ الفرات في كربلاء تاريخاً متحركاً لا يُختزل بمجرى ماء، بل سيرة حضارات وطبقات من التحولات السياسية والجغرافية والدينية، حيث بقيت كربلاء أرضاً تتنفس من ضفافه، عبر تاريخ طويل امتزج فيه الماء والبطولة والذاكرة.
المصدر: الكليدار، محمد حسن، مدينة الحسين، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، 2016، ص20-22.