شكّلت كربلاء المقدسة منذ مطلع القرن العشرين حاضنةً فكرية وأدبية فريدة مهّدت لولادة العمل الصحفي في العراق، إذ تزامن ازدهار النهضة الأدبية فيها مع بروز الوعي الاجتماعي والسياسي الذي أفرزته المجالس الثقافية المعروفة بـ "الأندية الأدبية" أو "المجالس"، والتي كانت المنبع الأول للكلمة الحرة والفكر المستنير.
ففي الوقت الذي شهدت فيه البلاد هيمنة العثمانيين ومحاولات التتريك بعد إعلان الدستور العثماني سنة 1908م، كانت كربلاء تخوض معركةً هادئة لحفظ اللغة العربية وهويتها الثقافية من خلال هذه المجالس التي احتضنت العلماء والأدباء والشعراء وخرّجت جيلاً مثقفاً من الشباب المؤهلين للالتحاق بالحوزات الدينية ومواصلة طلب العلم.
وكانت تلك المنتديات رافداً حقيقياً للصحافة الكربلائية الناشئة، إذ مثّلت بيئةً فكرية خصبة أنتجت أقلاماً واعية وكتّاباً أسهموا في تأسيس أولى التجارب الصحفية في المدينة، حيث كان النقاش فيها يدور حول الأدب والسياسة والاجتماع والدين، لتتشكل منها ملامح الصحافة الواعية التي تنقل الرأي والفكر وتدافع عن القيم والمبادئ الحقة.
وقد اكتسبت هذه المجالس مكانة مرموقة في الوجدان الثقافي الكربلائي، فتحولت إلى منابر يومية للوعي والتنوير، وأصبحت واقعة الطف الأليمة رمزاً مركزياً يغذي الخيال الأدبي ويعمق الحسّ الإنساني في شعراء المدينة، حتى غدت كربلاء مدرسة في الشعر والفكر والنقد، ومهداً لتكوين الصحفي والمثقف والكاتب.
ومن أشهر تلك المجالس التي تركت بصمتها في التاريخ الثقافي الكربلائي، هي مجلس آل سلطان، وآل رشتي، وآل الطباطبائي، وآل القزويني، وآل الشهرستاني، وآل طعمة، وآل ضياء الدين، وآل البحريني، وآل المرعشي، وآل الشيخ خلف، وآل كمونة، وآل الخطيب، وغيرها من الأسر العلمية والأدبية التي ساهمت في بناء مجتمعٍ مثقفٍ مؤمنٍ بدور الكلمة في صناعة النهضة.
تجدر الإشارة إلى أن تلك المجالس كانت قد تحولت إلى مختبرٍ فكري لصياغة الرأي العام، ومهدٍ لظهور أول الصحف والمطبوعات المحلية في كربلاء، لتؤسس لاحقاً لتجربة إعلامية رصينة أسهمت في تكوين الشخصية الثقافية للعراق الحديث، وربطت بين التراث الحسيني الخالد وروح العصر المتطلعة إلى التنوير.
المصدر: آل طعمة، سلمان هادي، صحافة كربلاء، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، 2020، ص10-11.