شهدت مدينة كربلاء المقدسة خلال القرن الخامس عشر الميلادي مرحلة تاريخية معقدة اتسمت بتناوب السلطتين التركمانيتين، القره قوينلو (الخروف الأسود) والآق قوينلو (الخروف الأبيض)، على حكم العراق، وسط صراع محتدم على النفوذ بين القوى الإقليمية التي أعادت رسم خريطة المنطقة السياسية والروحية آنذاك.
ففي عام 1411م، تمكن الزعيم "قره يوسف" من القضاء على آخر سلاطين الدولة الجلائرية، معلناً استقلاله وبداية حكم القره قوينلو، فيما بسط "قره عثمان" من جهة أخرى سلطته في ديار بكر مؤسساً دولة الآق قوينلو، وقد انعكس هذا الصراع على المدن المقدسة، ولاسيما كربلاء والنجف، اللتين ظلّتا محوراً روحياً وحضارياً وسط اضطرابات سياسية متواصلة.
وبحسب ما ورد في دراسة مفصّلة نشرها مركز كربلاء للدراسات والبحوث في العتبة الحسينية المقدسة، ضمن موسوعة كربلاء الحضارية، فقد أولى بعض أمراء القره قوينلو عناية خاصة بالمشهدين المقدسين، فأُعيد إعمار المراقد الطاهرة، وتعيين خدم يتقاضون رواتب من خزائنهم الخاصة، في خطوة تعكس تداخلاً بين السلطتين الدينية والسياسية في إدارة شؤون العتبات.
ويُذكر أن الأميرين "إسبان" و"بريبوداق" كانا من أبرز من أظهر الاهتمام بمدينة كربلاء خلال تلك الحقبة، حيث شهد عهدهما ظهور نخب علمية بارزة، يتقدمهم العلامة الشيخ "أحمد بن فهد الحلي"، الذي مثّل رمزاً علمياً وروحياً مهماً للمدينة.
لكن مع انتقال السلطة عام 1469م إلى "الآق قوينلو"، بدأت كربلاء تعيش مرحلة من الارتباك السياسي والاضطراب الاقتصادي والاجتماعي، نتيجة ضعف إدارة الدولة الجديدة وتناحر القوى المتنازعة على الحكم، إضافةً إلى تصاعد الخلافات العقائدية التي غذّاها المتسلطون لتفتيت وحدة المجتمع، ولم تُسجّل في عهد الآق قوينلو إنجازات تذكر في تاريخ المدينة، إذ كانت الفوضى والركود سمتين بارزتين في تلك الفترة.
وتبين الدراسة إن كربلاء بقيت رغم الاضطرابات مركزاً ثابتاً للروح والهوية الإسلامية، وأن العناية التي أولاها بعض حكام القره قوينلو تمثّل صفحات مضيئة في تاريخ المدينة الطويل، مؤكدةً إن قدسية كربلاء كانت ـ وما زالت ـ تتجاوز حدود السياسة لتبقى منارة للعلم والإيمان في كل العصور.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية الشَامِلَةُ، المحور التاريخي، قسم التاريخ الحديث والمعاصر، 2020، ج2، ص1-2.