شهد العراق في منتصف القرن الثامن عشر ميلاد مرحلة سياسية فريدة في تاريخه الحديث، عُرفت بـ عهد المماليك أو "الكولات"، وهي تسمية تعود إلى اللفظ التركي "كوله" الذي يعني المملوك أو العبد المعتق، وغالبًا ما كان هؤلاء من أصول جركسية جُلبوا صغاراً إلى البلاط العثماني، فترقّوا في مراتب العسكر والإدارة حتى استقلّوا بحكم البلاد.
امتدّ حكم المماليك في العراق ما يقارب ثمانية عقود (1750–1831م)، في فترة تخلّلتها تحوّلات كبرى بين سلطنتي محمود الأول ومحمود الثاني من آل عثمان، وتداول الحكم خلالها عدد من الولاة المماليك الذين تركوا بصمات متفاوتة بين الإصلاح والقسوة، وبين البناء والسيطرة.
بدأ عهد المماليك فعلياً مع سليمان باشا الكبير (1740–1761م)، الذي وضع اللبنات الأولى لنظامٍ إداري وعسكري يعتمد على المماليك المخلصين للوالي نفسه أكثر من ولائهم للباب العالي في إسطنبول، وسرعان ما تحوّلت بغداد في عهده إلى مركز شبه مستقل عن النفوذ العثماني، إذ أدار شؤون الضرائب والقضاء وأطلق إصلاحات مالية هدفت إلى ضبط الإيرادات وتوسيع سلطة الدولة المحلية.
غير أن هذه الإصلاحات – كما يشير المؤرخ "عباس العزاوي" قد جاءت بنتائج مزدوجة، إذ حققت النظام الإداري لكنها زادت من الاحتقان الاجتماعي والاقتصادي بسبب الرسوم الباهظة والضرائب المتراكمة، ولم يُعرف عن سليمان باشا، رغم مكانته، أنه قام بزيارة الحائر الحسيني أو أسهم في تعمير الصحن الشريف، مما عُدّ غياباً عن المشاركة في الوجدان الديني لأبناء كربلاء.
وقد بلغ عهد المماليك ذروته – ثم نهايته – في زمن داود باشا (1816–1831م)، الذي حاول إعادة هيكلة الجيش وتعزيز الاستقلال السياسي عن الدولة العثمانية، إلا أن سياسته اعتمدت على القوة العسكرية وجباية الضرائب بشكل قاسٍ، ما أثار استياء التجار والعلماء والعشائر.
وفي ظل تدهور العلاقات مع السلطان "محمود الثاني"، أرسل الأخير حملةً عسكرية أنهت حكم المماليك في العراق، ليعود النفوذ العثماني المباشر من جديد، لكنّ إرثهم لم ينتهِ تماماً، فقد خلفوا وراءهم بنية إدارية منظمة وتجربة في الحكم المحلي رغم ما شابها من اضطرابات وصراعات داخلية.
من جانبها، فلم تحظَ كربلاء المقدسة في هذا العهد باهتمامٍ يوازي مكانتها الدينية، إذ لم يسجّل التاريخ أي مبادرة عمرانية تُذكر في العتبة الحسينية من قبل المماليك الكبار، بل عانت المدينة من توترات متكررة بلغت ذروتها في واقعة تسخير كربلاء سنة 1842م والتي قادها الوالي العثماني محمد نجيب باشا لاحقاً، في امتدادٍ مباشرٍ لسياسات القمع والجباية التي أرساها عهد المماليك.
ورغم قسوة تلك الحقبة، فقد أسهمت – بغير قصد – في تشكيل الوعي الجمعي لأهل كربلاء حول مفهوم الاستقلال عن السلطة المركزية، وترسيخ فكرة العدالة الاجتماعية التي ظلت مطلباً متجدّداً في وجدانهم الديني والسياسي حتى العصور اللاحقة.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية الشَامِلَةُ، المحور التاريخي، قسم التاريخ الحديث والمعاصر، 2020، ج1، ص8-10.