في مواجهة تسارع الحداثة والزحف التكنولوجي الجارف، أطلق مركز كربلاء للدراسات والبحوث مطلع عام 2020، مشروعاً رائداً يسعى إلى إنقاذ ما تبقى من ذاكرة الحرف والمهن الشعبية في مدينة كربلاء المقدسة، لما لها من دور في صنع مكون أصيل من الهوية الثقافية والاجتماعية للمدينة، وترسيخ قيم الإبداع والعمل ضمن إطار من الأخلاق الإسلامية والعادات العربية الأصيلة.
ففي الجزء الأول من كتاب "المحور الاجتماعي" ضمن موسوعة كربلاء الحضارية، يتجلى هذا المشروع البحثي الكبير بالتعاون مع الأستاذ علي حسين الخفاف الغفاري، حيث تم توثيق الحرف والمهن التقليدية الأكثر شيوعاً في كربلاء، والتي نجت بأعجوبة من الانقراض بفعل الآلة والحداثة.
يبدأ الفصل الأول من هذا الكتاب برحلة تحليلية تستعرض معنى الحرفة والمهنة من حيث اللغة والاصطلاح، والفروقات الدقيقة بينهما، مع رسم خريطة هرمية لترتيب العاملين في هذا المجال، بما يضيء رؤية الإسلام حول الكدّ والكدح وكرامة العامل.
أما الفصل الثاني، فيغوص في أثر الموقع الجغرافي والديني لمدينة كربلاء على تشكّل حرفها وأسواقها، حيث اتضح أن لبعض الحرف وجوداً حصرياً في المدينة، مثل مهن خدمة الزائرين وإدارة المراقد، نظراً لطابعها العقائدي الفريد، وقد وثّق الباحثون تطوّر الأسواق، من "القيسريات" القديمة إلى "الخانات"، وشرحوا كيف كانت هذه المراكز تنبض بروح الاقتصاد الشعبي.
وفي الفصل الثالث، فقد تم تسليط الضوء على أنواع الحرف بحسب المادة الأولية، كالطين، والمعادن، والجلود، والنباتات، وغيرها، وفيما يعتقد البعض أن الحداثة قضت على هذه الصناعات، فقد بيّنت الموسوعة أن بعضها ما يزال حياً ومطلوباً، بفضل تفاني صُنّاعها وارتباطها بروح المدينة.
ويأتي الفصل الرابع ليعرض بانوراما غنية لأبرز المهن الكربلائية، موزعة على ستة مباحث، فمن المهن الثابتة إلى المتنقلة "الجوالة"، ومن المهن الدينية مثل "خدمة المرقد الشريف" و"الدفن الإسلامي"، إلى المهن العقائدية والهوايات المهنية كالصيد وجمع التحف القديمة.
هذا وقد اعتمدت الموسوعة على مجموعة من المصادر الأصيلة مثل مؤلفات الباحثين سلمان هادي آل طعمة، وعبد الجواد الكليدار، بالإضافة إلى مقابلات ميدانية مباشرة مع أصحاب الحرف أنفسهم، ومشاهدات الباحثين في الأسواق القديمة، فضلاً عن الاستعانة بخدمة الإنترنت لسد النقص في المعلومات عن المهن المنقرضة.
وكان من أبرز التحديات التي واجهت فريق العمل، هي قلة التوثيق السابق لحرف كربلاء الشعبية، وندرة المعلومات المكتوبة عنها، مما اضطر الباحثين إلى الجمع الميداني والمقابلات الشخصية، وكان غياب بعض الحرف بسبب اندثارها، عامل صعوبة إضافي في إعادة تركيب صورتها التاريخية.
إن ما يقوم به مركز كربلاء ضمن هذا الإطار، ليس مجرد توثيقٍ لحرفٍ ومهنٍ تقليدية، بل هو وقوفٌ شجاع في وجه الاندثار الثقافي، ورسالة للأجيال القادمة بأن في الطين ما لا تقوله التكنولوجيا، وفي الطرق على النحاس ما لا يبوح به الذكاء الاصطناعي، فهو محاولة جادة لإنقاذ نبض المدينة قبل أن تهمد دقّات الحِرَف في زحمة الصمت الرقمي.
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية الشاملة، المحور التاريخي، قسم التاريخ الإسلامي، النهضة الحسينية، ج4، ص54-55.