لم تكن كربلاء أرضاً عابرة في الجغرافيا، بل كانت منذ قرون رقعةً تتكلم بلسان الشعراء وتحمل في باطنها سرّ القداسة، فقد ورد ذكرها في الشعر العربي منذ العصر الجاهلي، وتحديداً في شعر الشاعر المخضرم "مَعْن بن أوس المزني"، لتظهر كربلاء كعلامة مكانية لا تقل أهمية عن مضمون القصيدة.
وعندما رجع الإمام علي بن أبي طالب "عليهما السلام" من صفين، نزل في أرض كربلاء، فدوّن "أبو سعيد التيمي" هذه اللحظة النادرة قائلاً: "أقبلت من الأنبار مع علي نريد الكوفة، وعلي في الناس، فبينما نحن نسير على شاطئ الفرات إذا هو يلج في الصحراء..." وكانت الأرض تُدعى حينها "نينوى"، وتقع ضمن نطاق سواد الكوفة، وتحوّلت بعد عام 61 هـ إلى أرض الحسين ومثوى الشهداء.
هذا وقد قدّم العلامة الأب "أنستاس الكرملي" تفسيراً لغوياً يحمل بُعداً دينياً عميقاً، معتبرًا أن كلمة "كربلاء" منحتوتة من "كرب" و"إيل"، أي "حرم الله"، وهو رأي له وجاهته، خصوصاً حين نعلم أن هذه الأرض كانت جزءاً من أرض بابل، مهد الأنبياء وموطن نبي الله إبراهيم الخليل "عليه السلام"، والذي استقر لاحقاً في أرض تُدعى بانيقيا (منطقة النجف حالياً).
امتدت قداسة الأرض من عصور النبوة إلى العصر الراشدي، واحتضنت في باطنها قبور الناس قبل الإسلام، لتغدو بانيقيا، والغري، والغاضرية مساحات تختلط فيها النبوءة بالتاريخ، ومرّ بها القادة في عملياتهم العسكرية، ومنهم خالد بن الوليد الذي نزلها في عام 12هـ/634م، في طريقه إلى الحيرة.
وقد سجل الشعر تلك اللحظات كما في قول عبد الله بن وثيمة عن أرض كربلاء:
لقد حبست في كربلاء مطيتي وفي العين حتى عاد غثاً سمينها
إذا رحلت من مبرك رجعت له لعمري وأيها إنني لأهينها
وتشير المصادر البلدانية القديمة مثل ياقوت الحموي إلى أن كربلاء كانت جزءاً من نينوى، وبسواد الكوفة ناحية يقال لها نينوى، منها كربلاء التي قُتل فيها الحسين..."، بل وحدّد بعضهم موقع نينوى على نهر العلقمي بجانب الحائر.
وكان هناك من انتسب إلى هذه الأرض المباركة مثل "حميد بن زياد الدهقان" المتوفى عام 310هـ، فيما وصف الدكتور "مصطفى جواد" كربلاء بـ "نينوى الجنوبية"، مميزاً بينها وبين نينوى الآشورية في الشمال، مشيراً إلى أن الاسم ليس صدفة بل امتداد رمزي لعاصمةٍ كانت يوماً قلب حضارة كبرى.
وختاما فإن كربلاء لم تكن يوماً مجرّد ساحة معركة، فقد كانت وما زالت رقعةً مشبعة بالشعر، مضمخة بالنبوءة، ومغمورة بقداسةٍ بدأت منذ أن وطئها علي، وبلغت ذروتها حين احتضنت جسد سبط النبي الأكرم، "صلوات الله عليهما".
المصدر: مركز كربلاء للدراسات والبحوث، موسوعة كربلاء الحضارية، المحور التاريخي، قسم التاريخ الإسلامي، ج1، 2017، ص33-36.