بعدما اصبحَ جسد الامام الحسين (عليه السلام) طريحاً على رمضاء كربلاء جسداً بلا رأس مع سائر أبنائه واخوته وآل بيته واصحابه المنتجبين (عليهم السلام) تصهرهم حرارة الشمس الحارقة، بعدما سبيت زينب (عليها السلام) مع الامام علي بن الحسين (عليه السلام) وبقية النساء والأطفال والعيال.
خرجت نساء بني اسد فرأين الأجساد الطاهرة بلا غسل ولا تكفين ولا دفن، فرجعن مسرعات الى الرجال يخبرنهم بما حدث في طف كربلاء، فسارعَ الرجال الى الأجساد الطاهرة، وبعدما نظروا الى جسد الإمام الحسين (عليه السلام) وبقية الأجساد الطاهرة بلا رؤوس، يشيب الطفل الرضيع من هول المنظر، وهم على هذه الحال اذ اقبلوا على الجسد الطاهر للإمام الحسين (عليه السلام) لتجهيزه ودفنة، فبينما هم كذلك وإذا بالإمام زين العابدين (عليه السلام) قد اقبل بمعجزة طي الأرض إلى أرض كربلاء.
قال الشيخ المفيد: ولمّا أقبل السجّاد (عليه السلام) وجد بني أسد مجتمعين عند القتلى متحيّرين لا يدرون ما يصنعون، ولم يهتدوا إلى معرفتهم، وقد فرق القوم بين رؤوسهم وأبدانهم، وربما يسألون من أهلهم وعشيرتهم! فأخبرهم (عليه السلام) عما جاء إليه من مواراة هذه الجسوم الطاهرة، وأوقفهم على أسمائهم، كما عرّفهم بالهاشميين من الأصحاب، فارتفع البكاء والعويل، وسالت الدموع منهم كل مسيل.
ثمّ مشى الإمام زين العابدين (عليه السلام) إلى جسد أبيه واعتنقه وبكى بكاءً عالياً، وأتى إلى موضع القبر ورفع قليلاً من التراب فبان قبر محفور وضريح مشقوق، فبسط كفّيه تحت ظهره وقال: (بسم الله وفي سبيل الله وعلى ملّة رسول الله، صدق الله ورسوله، ما شاء الله لا حوّل ولا قوّة إلاّ بالله العظيم)، وأنزله وحده لم يشاركه بنو أسد فيه، وقال لهم: (إن معي من يعينني)، ولما أقره في لحده وضع خده على منحره الشريف قائلاً: (طوبى لأرض تضمّنت جسدك الطاهر، فإنّ الدنيا بعدك مظلمة، والآخرة بنورك مشرقة، أما الليل فمُسَهَّد، والحزن سرمد، أو يختار الله لأهل بيتك دارك التي فيها أنت مقيم، وعليك منّي السلام يا بن رسول الله ورحمة الله وبركاته)، وكتب على القبر: هذا قبر الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الذي قتلوه عطشاناً غريباً.
ثمّ مشى إلى عمّه العباس (عليه السلام)، فرآه بتلك الحالة التي أدهشت الملائكة بين أطباق السماء، وأبكت الحور في غرف الجنان، ووقع عليه يلثم نحره المقدّس قائلاً: (على الدنيا بعدك العفا يا قمر بني هاشم، وعليك منّي السلام من شهيد محتسب ورحمة الله وبركاته).
وشق له ضريحاً وأنزله وحده كما فعل بأبيه الشهيد، وقال لبني أسد: (إنّ معي من يعينني) نعم ترك مساغاً لبني أسد بمشاركته في مواراة الشهداء، وعيّن لهم موضعين وأمرهم أن يحفروا حفرتين، ووضع في الأُولى بني هاشم، وفي الثانية الأصحاب وأمّا الحر الرياحي فأبعدته عشيرته إلى حيث مرقده الآن (وبعدما أكمل الإمام (عليه السلام) دفن الأجساد الطاهرة، عاد إلى الكوفة والتحق بركب السبايا.
..................................................................
المصادر:
مقتل الحسين: 320.
الإرشاد - الشيخ المفيد - ج 2 - ص 114