في زمنٍ اشتدت فيه عواصف القمع الأموي، واغتُصبت فيه مبادئ الإسلام الأصيلة، بزغت ثورة الإمام الحسين "عليه السلام" كصرخة خالدة ضد الظلم والانحراف، رافعةً شعار الحق والعدالة، ومؤكدةً على مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في مواجهة منظومة سياسية أفرغت الإسلام من محتواه المحمدي العلوي.
هذه الثورة، التي اشتعلت في صحراء كربلاء ودوّت في ضمير الإنسانية، لم تكن استجابةً وقتية لمظالم عابرة، بل كانت محطة وعي كوني، ودعوة لتصحيح مسار أمة، وقد وجدت هذه النهضة الإلهية من يخذلها في وقتها، ثم من ينهض لثأرها لاحقاً، لا بالسيف فقط، وإنما بالقلم والفكر والصوت والدمعة.
لكن حين عبرت هذه الثورة حدود الشرق، ووقفت على أعتاب العقل الغربي، اصطدمت بعدسة الاستشراق، تلك الحركة الفكرية الغربية التي ولجت ثقافات الشرق، وادعت دراستها وفهمها، لتقع في مفترق حادٍّ عند قراءة كربلاء، بين فريق أنصف ووقف مع الدم المظلوم، وآخر ركب أمواج السلطة وأعاد إنتاج الرواية الأموية بقالب أكاديمي.
ففي الوقت الذي كتب فيه بعض المستشرقين الأفذاذ عن سيد الشهداء "عليه السلام" وثورته العظيمة بإعجاب واحترام، مشيدين ببسالته ومبدئيته، انساق آخرون وراء روايات وعّاظ السلاطين، وصوّروا ثورته على أنها تمرّد على "شرعية الدولة"، فسوّغوا المجزرة، بل وروّجوا لرواة البلاط وكأنهم مؤرخون موثوقون.
والأدهى أن بعض هؤلاء المستشرقين انحرفوا إلى مهاجمة العقيدة الشيعية ذاتها، واعتبروها خارجة عن السياق الإسلامي، ناسبين إليها أكاذيب لا تستقيم أمام أي بحث نزيه، فاتهموها بالأسطرة والتجسيم والخرافة، من دون فهمٍ لجوهرها أو استيعابٍ لمظلومية أهل البيت "عليهم السلام" وتاريخهم الناصع.
وعلى الرغم من هذه الصورة القاتمة، إلا أن قلةً من المستشرقين المنصفين، استدركوا الحقيقة، ونبذوا تلك الانحيازات، ووقفوا بوضوح مع سبط رسول الله "صلوات الله عليهما"، وعدّوا ثورته أنبل صور المقاومة ضد الاستبداد، بل إن بعضهم شارك في إحياء ذكراه رغم اختلاف الدين والثقافة، مدفوعين بإيمانهم الراسخ بقيم العدالة والحرية.
هذا ويؤكّد محللون أن دوافع انحياز أكثر المستشرقين للخط الأموي لم تكن بريئة، بل اختلطت فيها الحسابات الدينية والسياسية والاقتصادية، فلطالما نظر الغرب إلى السلطة الأموية كذراعٍ نافعة لمشاريعه التوسعية في الشرق، بينما مثّلت مدرسة أهل البيت خطًّاً تحررياً لا يُروّض بسهولة.
المصدر: موسوعة كربلاء الحضارية، المحور التاريخي، قسم التاريخ الإسلامي، النهضة الحسينية، ج8، ص1-5.