من رحم الحزن والفداء، ومن وهج الدم الطاهر في موقعة الطف الخالدة عام 61هـ، نشأت كربلاء كرمز خالد للعزة والكرامة والإيثار، لتصبح على مرّ القرون، حاضرةً دينيةً وعلميةً شامخة، تتلألأ في سماء التأريخ الإسلامي والإنساني.
فمنذ أن احتضنت الجسد الطاهر للإمام الحسين "عليه السلام" وأجساد أهل بيته الكرام وأصحابه النجباء، تحوّلت كربلاء إلى قبلةٍ للعلماء، وعشقًا للأحرار، ومزارٍ للوفود من كل أصقاع الأرض، تشدّ إليها الرحال تبركًا بالمرقدين الشريفين للإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس "عليهما السلام".
في ظل هذا العمق الروحي والوجداني، شهدت كربلاء نمواً متسارعاً في مختلف الجوانب، فازدهرت تجارتها وزراعتها، وبدأت تظهر فيها حركة فكرية نشطة تمخّضت عن مدارس علمية وحلقات دراسية احتضنتها الحوزات والبيوتات العلمية.
وتعود بدايات الحركة العلمية في هذه البقعة المباركة إلى أواخر القرن الثالث الهجري، مع نبوغ الزعيم الديني "حميد بن زياد النينوي"، الذي أسّس نواة جامعة العلم في كربلاء. وكانت نينوى حينها إحدى القرى المجاورة لكربلاء، تمتد من جنوب سدة الهندية حتى نهر العلقمي.
وعلى الرغم من انتقال الزعامة الدينية لاحقاً إلى النجف الأشرف على يد الشيخ الطوسي (443هـ)، فقد واصلت كربلاء أداءها العلمي والروحي، ففي القرن الخامس الهجري، برز فيها الشيخ "هشام بن إلياس الحائري" صاحب "المسائل الحائرية"، و"ابن الحمزة الطوسي" صاحب كتاب "الوسيلة"، ممّا يؤكد استمرار النبض العلمي فيها.
كما شهد القرن السادس الهجري بروز عدد من الشعراء والعلماء العظام، لتستمر كربلاء في القرن السابع كمركز علمي مرموق مع ظهور علماء كبار مثل السيد "فخار بن معد الحائري الموسوي" و"عز الدين حسن بن نائل"، ممن اتخذوا الحائر الشريف منبراً للدراسة ونشر العلوم.
واليوم، تفتخر كربلاء بأنها كانت وما تزال، مدينةً من نور، وواحةً للفكر، وجسراً يصل بين الفداء والعلم، وبين القداسة والحضارة على مرّ العصور.
المصدر: وثائق الحوزة العلمية في كربلاء منذ نشوئها حتى عام 1444هـ / 2023م، د. كامل سلمان الجبوري، ج1، ص5-6.