هو العباس بن علي بن أبي طالب، وأمّه فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن الوحيد - وهو عامر- بن كعب بن عامر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس عيلان - الناس- بن مضر الملقّبة بأمّ البنين.
ذكر النسّابة ابن عنبه، والعمري، والطبرسي: أنّه يوم قتل كان له من العمر 34 سنة.
قال الأوردبادي: ولا عبرة بما قاله لسان الملك في ناسخ التواريخ وغيره من بعض الكتّاب المتأخّرين أنّ عمره الشريف عند استشهاده 36 سنة، او 32 سنة.
لايخفىٰ علىٰ المتأمّل الخبير أنّ معاملة أمير المؤمنين عليه السلام ولده العبّاس عليه السلام من إخباره بشهادته وبقطع يديه من الزند، وبما حباه الله عن يديه بجناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة كعمّه جعفر بن أبي طالب رضوان الله عليه، كذلك إجلاسه في حجره وتشمير ساعديه وتقبيله، وهو غارقٌ بالبكاء نظيرٌ بما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله مع ريحانته الحسين عليه السلام من إخباره بشهادته وعظيم ما جرىٰ عليه، ومن تقبيله مواضع السيوف، وبكائه عليه، وكذلك أمّهاتهما في مواجهة هذه الفعليّات مع ابنيهما وتجرّعهما الغصص، وبهذا كان لأمّ البنين عليها السلام في سيّدة النساءعليها السلام أسوةً وقدوةً ومواساةً وسلوةً.
قال الدينوري: ولمّا رأىٰ العبّاس بن علي كثرة القتلىٰ قال لإخوته عبد الله، وجعفر، وعثمان، بني علي عليه السلام ، وأمّهم جميعا أمّ البنين العامريّة من آل الوحيد: « تقدّموا بنفسي أنتم فحاموا عن سيّدكم حتّىٰ تموتوا دونه» فتقدّموا جميعاً فصاروا أمام الحسين عليه السلام يقونه بوجوههم ونحورهم.
وفي رواية ذلك عند المقرم انه قال: فمثل أمام أخيه الشهيد يستأذنه فلم يجد أبو عبد الله عليه السلام بدّاً من الإذن حيث وجد نفسه لتسبق جسمه إذ ليس في وسعه البقاء علىٰ تلك الكوارث الملمّة من دون أن يأخذ ثاره من أولئك المردة فعرفه الحسين أنّه مهما ينظر اللواء مرفوعاً كأنّه يرىٰ العسكر متّصلاً والمدد متتابعاً، والأعداء تحذر صولته، وترهب إقدامه، وحرائر النبوّة مطمئنّةٌ بوجوده فقال له: «أنت صاحب لوائي، ولكن أطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء».
فذهب العبّاس إلىٰ القوم ووعظهم، وحذّرهم غضب الجبّار فلم ينفع فرجع إلىٰ أخيه وأخبره فسمع الأطفال يتصارخون من العطش فنهضت بساقي العطاشىٰ غيرته الشمّاء وأخذ القربة وركب فرسه وقصد الفرات فلم يرعه الجمع المتكاثر، وكشفهم شبل علي عن الماء، وملك الشريعة، ومذ أحسّ ببرده تذكّر عطش الحسين. فرمىٰ الماء وملأ القربة، وحملها علىٰ كتفه الأيمن، وتوجّه نحو الخيمة.
لقد وصل العبّاس عليه السلام إلىٰ المشرعة، وأقحم الماء فرسه، وملأ كفّه بالماء، واستروح كبده الملتهب رائحة الماء، وأحسّ ببرده إلاّ أنّه ذكر عطش أخيه فرمىٰ الماء من كفّه، وإنّما المقصود ظاهراً من: «ذكر» أي: لم يكن أبوالفضل عليه السلام ناسياً حتّىٰ يذكر بل المراد أنّه تلا وقرأ لنفسه مصيبة عطش الحسين عليه السلام ، وأنشأ يقول:
يا نَفْــــــــسُ من بعدِ الحسينِ هُوني |
|
وبعدَهُ لاَ كُنْتِ أنْ تَكوني |
هذا حســــــــــــــــــينٌ واردُ المَنونِ |
|
وتَشْربينَ بارِدَ المَعينِ |
هَيْهَاتَ مَا هَذَا فِعالُ دِينِيٌّ |
|
وَلَا فِعالُ صَادِقُ الْيَقِينِ(2) |
قال الحائري: لمّا ركب فرسه وأخذ رمحه والقربة وقصد الفرات وقد أحاط به أربعة آلافٍ، وفي روايةٍ ستّة آلافٍ، وفي الأسرار عشرة آلاف محاربٍ فحمل عليهم العبّاس وقتل منهم شجعاناً، ونكس منهم فرساناً وتفرّقوا عنه هاربين كما يتفرّق عن الذئب الغنم، وصعد قومٌ علىٰ التلال والأكمات، وأخذوا يرمونه بالسهام حتّىٰ قال إسحاق بن جثوة لعنه الله: فثوّرنا عليه النبال كالجراد الطائر فصيّرناه جلده كالقنفذ، ومع ذلك كان كالجبل الأصمّ لا تحرّكه العواصف ولا تزيله القواصف فغاص العبّاس عليه السلام في أوساطهم وقتل منهم مقتلةً عظيمةً، وهو بينهم يرتجز ويقول:
لا أرهب الموت إذا الموت زقا |
|
حتّىٰ أوارىٰ في المصاليت لقا |
نفسي لنفس المصطفىٰ الطهر وقا |
|
إنّي أنا العبّاس أغدو بالسقا |
ولا أخاف الشرّ يوم الملتقىٰ |
فتفرّقوا عنه هاربين فكشفهم عن المشرعة ونزل فهجموا عليه فخرج إليهم وفرّقهم ثمّ عاد إلىٰ المشرعة فحملوا عليه ثانياً فكرّ عليهم العبّاس علىٰ ما في بعض الكتب ومنها: الكبريت الأحمر إلىٰ ستّ مرّاتٍ، وفي السادسة انصرفوا ولم يرجعوا فنزل وملأ القربة، وأراد أن يخرج نادىٰ عمرو بن الحجّاج لعنه الله دونكم العبّاس فقد حصل بأيديكم فكثرت عليه الرجال فلمّا رأىٰ العبّاس وقد تسارعوا إليه حطّ القربة، وخرج من المشرعة واستقبل القوم يضربهم بسيفه، وكأنّه النار في الأحطاب وهو يقتلهم ويحصدهم حصد السنبل.. وهو يرتجز ويقول:
أقاتل القوم بقلبٍ مهتدٍ |
|
أذبّ عن سبط النبيّ أحمد |
أضربكم بالصارم المهنّد |
|
حتّىٰ تحيدوا عن قتال سيّدي |
إنّي أنا العبّاس ذو التودّد |
|
نجل عليالمرتضىٰ المؤيّد |
فقتل من ساداتهم وأبطالهم مئةً ثمّ عاد إلىٰ القربة فاحتملها علىٰ عاتقه وخرج يريد المخيّم.
اتّجه أبو الفضل العبّاس عليه السلام نحو المخيّم بعد ما ملأ القربة، والتحم مع أعداء الله التحاماً رهيباً فقد أحاطوا به من كلّ جانبٍ وهم أربعة آلافٍ أو أكثر ليمنعوه من إيصال الماء إلىٰ عطاشىٰ آل النبي صلى الله عليه وآله فركب عمر بن سعد لعنه الله وزحفت في أثره الأعلام، ووصلت الخيل والرجال إلىٰ العبّاس، وقد أدركته الخيل والرماح كآجام القصب، وجعل العبّاس ينادي: «يا أعداء الله، لئن قتلنا فلقد قتلنا منكم أضعافاً»، وصار يضرب فيهم يميناً وشمالاً، ويجدل الفرسان وينكس الأبطال وقتل منهم خلقاً كثيراً، والقربة علىٰ ظهره فلمّا نظر ابن سعد ذلك نادىٰ: ويلكم ارشقوا القربة بالنبل فوالله، إن شرب الحسين الماء أفناكم عن آخركم أما هو الفارس بن الفارس البطل المداعس فحملوا عليه حملةً منكرةً، وروي أنّه قتل منهم مقتلة كثيرة.
أقول: ولعمر الله، لو لم يكن ما جرىٰ علىٰ اللوح أن يستشهد العبّاس في ذلك اليوم حتّىٰ ينكسر لفقده ظهر الحسين عليه السلام ، وينال الشهادة لأفنىٰ العبّاس جميع أهل الكوفة بشماله دون يمينه، وقد صرّع الأبطال والشجعان بشماله ممّن يعدّ بألفٍ أو ألفين:
قـسـماً بـصارِمِهِ الـصَّقيل وإنّـني |
|
فـي غـير صـاعقةِ الـسَّما لا اقسِمُ |
لـولا الـقَضا لَـمَحى الـوجودَ بِسَيفهِ |
|
واللهُ يـقـضي مــا يـشاءُ ويَـحكُمُ(1) |
فتكاثروا عليه وقطعوا طريقه، وثوّروا عليه النبال كالجراد المنتشر فلم يبال بهم ولم ترعه كثرتهم وأخذ يكردهم وحده، ولواء الحمد يرفّ علىٰ رأسه، وهو يحصد رؤوسهم ويضرب فيهم بسيفه ويقول:
لا أرهبُ الموتَ إذا المـوتُ زَقَا |
|
حتَّى أُوارى في المَصاليتِ لِقَى |
نفسي لِسِبطِ المُصْطَفى الطُّهرِ وِقا |
|
إنّي أنا العبَّاس أغْدُو بالسِقَا |
ولا أخافُ الشرَّ يومَ المُلتقى |
فكمن له الخبيث زيد بن الرقاد الجهني من وراء نخلةٍ، وعاونه حكيم بن الطفيل السنبسي ولم يستقبلاه بوجهه فضربه علىٰ يمينه فبراها فحمل العبّاس القربة علىٰ كتفه الأيسر، وأخذ السيف بشماله، وجعل يقاتل ويضرب فيهم ويقول:
واللهِ إن قَطعتُمُ يمينــــي |
|
إنّي أُحامِي أَبَداً عن دِيني |
وعنْ إمامٍ صَادِقِ اليَقِينِ |
|
نَجْلِ النّبيِّ الطــاهِرِ الأَمينِ |
وتقدّم العبّاس عليه السلام قليلاً فكمن له الرجس الخبيث حكيم بن الطفيل الطائي من وراء نخلةٍ فضربه علىٰ يساره فبراها من الزند.
يا نفسُ لا تَخشَيْ منَ الكُفّارِ |
|
وأبشـِري برحــمةِ الجبّارِ |
معَ النّبيِّ المصْطَـفى المخْــتارِ |
|
قدْ قَطَعُوا بِبَغْيِهم يَساري |
فأَصْلِهِم يا ربِّ حَرَّ النّارِ |
فحمل القربة بأسنانه، وضمّ اللواء إلىٰ صدره، وجعل يركض ليوصل الماء إلىٰ عطاشىٰ أهل البيت عليه السلام.
فعند ذلك أمنوا سطوته وتكاثروا عليه، وأتته السهام كالمطر فأصاب القربة سهمٌ وأريق ماؤها، وسهمٌ أصاب عينه، وسهمٌ أصاب صدره، وشدّ عليه رجسٌ خبيثٌ، وضربه بعمودٍ من حديدٍ علىٰ رأسه الشريف ففلق هامته:
وهــــــــــــوىٰ بجنب العلقميّ فليته |
|
للشــــــــــــاربين به يــــداف العلقم |
وهوىٰ إلىٰ الأرض، وودّع أخاه الوداع الأخير فنادىٰ: «عليك منّي السلام يا أبا عبد الله».
فانقضّ عليه أبو عبد الله كالصقر إذا انحدر علىٰ فريسته ففرّقهم يميناً وشمالاً فرآه مقطوع اليمين واليسار، مرضوخ الجبين، مشكوك العين بسهمٍ، مرتثّاً بالجراحة فوقف عليه منحنياً، وجلس عند رأسه يبكي، وهو يلفظ شظايا قلبه الذي مزّقته الكوارث، وقال: «الآن انكسر ظهري، وقلّت حيلتي، وشمت بي عدوّي».
قال الإمام الصادق عليه السلام في حقّه عليه السلام:
( كان عمّنا العبّاس بن علي نافذ البصيرة صلب الإيمان: جاهد مع أبي عبد الله، وأبلىٰ بلاءً حسناً، ومضىٰ شهيداً ).