تجسّدات كربلاء في ضمير الفن ..ح(6)
(سلسلة حلقات أحاول من خلالها تناول ملحمة كربلاء في الفن برؤى تحليليّة من حيث البنية الملحمية والفلسفية والتعاطي الفني معها!)
بقلم/ محمد طهمازي
(رمزية الحصان في الملحمة الكربلائية)
تتحد الصورة بالعنصر العقلي وتنزاح من موقعها الإيقوني نحو آفاق أوسع من التكثيف الرمزي ويغدو التعمّق فيها محاولة غنية للكشف الاركيولوجي تبحث في الطبقات العميقة للدلالة أو العميقة الدلالة.. إن اللجوء للرمز بصفته وسيلة مهمة في التعبير يبعد منتج العمل الفني عن الوقوع في السطحية والمباشرة. هنالك عدد كبير من الرموز المتضمَّنة بشكل مباشر أو غير مباشر في الملحمة الكربلائية، والتي تحمل معانٍ متعددة، وفي ذات الوقت صورًا نصّية ونصوص صورية في سعي قوي نحو وصف حدث يملك دلالات متشعّبة ومعالجة سياقات أحداثه وفرزها وإعادة بناءها لتكوين هيكل رصين للقضية.
إن الحصان في الملحمة الكربلائية يخرج عن سياق أساطير المنطقة والصور الرمزية التي توارثتها المساحة السكانية لمنطقة الحدث والجوار عبر تراثها الفولكلوري, متخذًا خطًا مكثّف الزخم القيمي والإنساني في سابقة تشكّل مرجعية لأخلاقيات بدأ الحديث عنها بعد قرون من ذلك الحدث..
لقد خرج رمز الحصان من القالب الأسطوري والخرافي وحتى الحربي والحياتي ودخل منطقة الأخلاقيات الإنسانية التي تتبادل قيمها وحسّها الروحي مع مخلوقات الله الأخرى بصيغ لم تألفها البنى الحضارية السابقة وحتى اللاحقة إلى عصر قريب وهذه الأخلاقيات هي تجسيد حي للتكليف الإلهي لآدم كونه خليفة الله في الأرض ثم لبني الإنسان عامة والخلافة هنا تمثل دور الراعي الأبوي الرحيم الذي يحمل عبء المسؤولية الأخلاقية الضخم على أكتافه, المسؤولية عن الأرض وكائناتها, حمل الإدارة وقبله حمل الرحمة والعطف على هذه الأرواح التي لا تملك لسانًا تطالب به بحقها في الحياة كما هو حق الإنسان فالجميع بمختلف صورهم ودرجات وعيهم هم مخلوقات لخالق واحد هو الله سبحانه وتعالى الذي بث الروح فيها وشكّلها لحكمة إلهية لا يملك معناها سواه وأي خرق لهذه العلاقة وهذه الوصية الإلهية هو خرق لعهد الله. انظر للعلاقة بين الإمام أبي الفضل العباس وحصانه حين ورد الماء ليشرب فقال له أنت عطشان مثلي وقدّمه عليه ليشرب قبله في صورة متقدّمة للتعاطي مع الكائنات الحيّة لو رجعنا بالصورة قليلًا إلى الوراء لزمن قريب لكننا نرى حاتم الطائي الفارس الكريم يضحّي بحصانه, رفيق دربه في مصاعب الحياة ومفاوز الموت, لأجل ضيف له مهما كانت الحالة القيمية للضيف لكنها ضربت العلاقة الأثيرة بين رفيقين في الحياة والمصير بينما الإمام العباس في عزّ المعركة وهو يسير على أسنة الموت قتلاً أو عطشًا يقدّم حصانه عليه وهو حامل لواء الحسين إمام ذلك الزمان, إنه فرق شاسع جدًا بين الحالتين وصورة غير معهودة!
يقول الروائي البرتغالي الحائز على جائزة نوبل للأدب خوزيه ساراماغو: " ان الضمير الاخلاقي الذي يهاجمه الكثير من الحمقى وينكره آخرون كثر أيضاً .. هو موجود وطالما كان موجوداً.. ولم يكن من اختراع فلاسفة الدهر الرابع حيث لم تكن الروح اكثر من فرضية مشوشة, ومع مرور الزمن والارتقاء الاجتماعي ايضا والتبادل الجيني انتهينا الى تلوين ضميرنا بحمرة الدم وبملوحة الدمع!".
يتبع ..