كتب الدكتور إلياس الهاشم(ناقد من لبنان) قراءة نقدية في قصة "عبور" وهي قصة من المجموعة القصصية التي أصدرها مركز كربلاء الموسومة:(حكايا البرهان السومري) للدكتورة أمل الأسدي
نص القراءة:
قراءة: إلياس الهاشم
العبور وما أدراك ما العبور ؟!
أن تدخل حديقة أمل الأسدي القصصية عليك أن تحمل ذاتك إلى عالم الخيال المنسوج من الواقع الأليم في عراقنا العزيز. فالكاتبة تعرف كيف تنقّي وريدات حديقتها بإتقان وبلاغة، وتعرف كيف تقدّم لزائر حديقتها أجمل ألوان السرد والدهشة والتماهي مع الحدث.
لقد قطفت أمل الأسدي في قصّتها أجمل الأمل في النصر، وأنبل الأسُود الشهداء، فهي متمكِّنة من أكاديمية البناء القصصي، وأسلوب السرد، وهذا مما لا شكّ فيه عند أستاذة جامعية تتقن لعبة استخراج العطر من الحروف على طريقة الفنِّ والتصوير في الإخراج السينمائي.
أمل الأسدي لا يهمّها الشكل في البوح، إن كانت قصة قصيرة أو رواية مطوّلة، ما يهمّها هو المضمون الذي يجتاح قلبها وعقلها، وما تريد أن تبوح به.
إنّها ابنة العراق مهد الحضارات، ابنة أرض سيِّد الشهداء بكربلاء، فالأشكال لا تعنيها، بل يعنيها المضامين، لقد مشت أمل بروايتها طريق الشهادة الحق، وصوّرت الواقع الدموي الذي يعيشه العراق منذ استشهاد الإمام الحسين إلى يومنا هذا. فالمصير أيها السادة لم يتغيّر ،والظلم لم يتغيّر، ولم تزل قوافل الشهداء سيّارة من كربلاء إلى دمشقَ، إلى بيروت، إلى القدس.
لقد صوَّرت الكاتبة شهادة القائدين الكبيرين، "قاسم سليماني وأبو مهدي المهنّدس" بجمالية فائقة الجمال في التعبير، ورسمت صورة الشعب العراقي الموّحد مسيحيين ومسلمين، وأيزيديين وغيرهم، في مواجهة داعش وأعوانها، وسردَتْ على لسان بطلها "جوني" الجندي المسيحي في جيش الحشد الشعبي العراقي، وربطت شهادة هذا البطل بشهادة جون بن وهب مع الإمام الحسين في وقعة كربلاء، لتؤكّد للقارئ، وللقاصي والداني، أنّ صورة العراق هذه هي صورة جوني وقاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس، وليست صورة الدواعش ومجازرهم، وحقدهم وعمالتهم، وسفالتهم على أبناء جلدتهم ودينهم، وخصيصاً في الموصل وما تحمل الموصل من رموز.
لقد نجحت أمل الأسدي بإقناع من يقرأها بأنّ ما تتخيّله هو الواقع في الإخبار، فقد حمّلت بطلها الراوي جوني أفكارها التي تريد البوح عنها، ليكون هو الراوي لها ذلك الجندي العائد من غيبوبة الشهادة ليروي لنا نحن الأحياء، أنٍّ الشهداء أحياء عند ربِّهم يرزقون. وأعطت الرواية مسحة دينية كربلائية، تستنفر دمعك في سردها على لسان
"جوني" وهو يحدّثك عن الجَدّة الأيزيدية، وكيف نالت بركة أبي الفضل العبّاس ساقي العطاش، وأصبحت تقرأ الغيب عن ظهر قلب، وتعرف الخفايا من الأحداث.
لقد جسّدت أمل الأسدي في سردها للأحداث سرَّ النصر الإلهي الذي يقوم به أبطال العراق، وكيف يدافعون عن الأرض والشرف حتّى الشهادة. وهذا ليس غريباً عن أحفاد الإمام الحسين في مسيرتهم من أجل قول كلمة الحق في وجه السلطان الجائر. تصفُ المشاهد على لسان "جوني" وتنقلك بالحروف إلى خضم المعركة، كأنّك شاهد عيان معها على الدماء، وتقطيع الأشلاء، ومشاهد السبي، والقتل على يد من يدّعون أنهم أمراء، وخلفاء الإسلام، وهم لا يعرفون من الإسلام إلاّ تعصّبهم، وجهلهم، وإساءتهم للإسلام الحنيف خدمة للأعداء.
تصوِّرُ أمل حقيقة التواضع والشجاعة، والإيمان عند القائدين "قاسم سليماني وأبو مهدي المهنّدس" فالرجلان على علوِّ قامتهما لا يأبهان لأمور الدنيا ومادياتها، وللإستعراض والمواكبات العسكرية، وللقيادة من المكاتب والقصور، بل كانا في مقدّمة الجنود يلاطمان الموت بصدورهما مع الجنود والشعب، وهذا ما حمّلته على لسان "جوني" في قَصِّه للحدث عندما رفض المهندس أن يرحل دون أن ينقذ الطفلة من تحت الركام، وعندما نزلا من المنصّة العالية ليصافحا الشهداء فقال قاسم :"نحن لا نجلسُ في هذا المكان العالي، نحن خدَم للناس وحسب."
إنّ هذا الرقيّ أيها السادة هو من صفات الشهداء الأولياء.
أمل الأسدي تروى على لسان "جوني" ألمَها، ودمعتها، وحبَّها، وعشقها للشهداء، كي لا أقول إنّها تختبئ وراء شخصية "جوني" بل هي تتقمّص شخصية الشهيدة الحيَّة وتروي ما تتخيّله يوماً لو أنّها التقت بالشهداء الأعزّاء.
أمل الأسدي تبثُّ ثقافة الإسلام الحقيقي، إسلام الحبِّ والسلام، إسلام الإخاء بين أبناء العراق والأمّة، فهي تزرع الحبّ الأكبر، والحبّ الأقوى من خلال هذه الرواية، لأنّ الشهداء يزرعون الحقّ، والحبّ، والرأفة، والمروءة. تصفُ الكاتبةُ الأرض العائد إليها "جوني" بأنّها مزرعة، وما أدراك ما هي المزرعة في التوصيف الواقعي. إنّ هذه الرحلة، اليقظة من غيبوبة للحظات، تحمل مرآة عاكسة لعقل، وقلب كاتبةٍ مؤمنة بالله وبالأرض، وبعدالة السماء، فقد آثرت على نفسها أن تكون حسينيةً، وأن يعود الشهيد إلى المزرعة إلى الأرض، حيث الألم والجحود، فقررت بملء إرادتها ان تنهي الرؤية، وتعيد الشهيد إلى مكانه الأعلى حيث الخلود، قاصدةً من خلال الرواية أن تعطي درساً يبقى علامة فارقة في مسيرة وجودنا مع أعداء الله وعباده، مع المحتلّين والعملاء.
إنَّ الشهادة هي المنتصرة مهما طال الزمان. ويجب أن نحتفظ يا أمل دائماً "بالخاتم" الذي كان في أصبع الشرفاء لكي يكون الخاتم رمزاً للتواصل وللقيادة، وأن يكون النصر دائماً حليف الأحرار.
أمل الأسدي بإختصار، بُورك قلمُكِ، وبورك عطاؤكِ، وإلى المزيد من العطاء والتألّق، واعذريني على هذه العجالة فالنّص يحمل الكثير والكثير من الجمالية في الدراسة.
إلياس حليم الهاشم. لبنان.