في أعقاب إعلان الانقلاب الدستوري العثماني (المشروطية الثانية) في يوليو 1908، والذي أنهى حكم السلطان عبد الحميد الثاني الاستبدادي وأعاد العمل بالدستور المُعلَّق منذ 1878، شهدت مدن الإمبراطورية تحولات جذرية، ومنها مدينة كربلاء المدينة الدينية، تفاعل أهل كربلاء مع الحدث بشكل لافت، حيث زُيِّنت المدينة في 24 نيسان/أبريل 1908 بالأعلام والزينة الرسمية، وكُتبت عليها شعارات مثل (حريت، عدالت، مساوات، إخوت)، تعبيراً عن تأييدهم لعهد الدستور الجديد.
انقسمت النخبة الكربلائية إلى فئتين رئيسيتين، الفئة الأولى ضمَّت (الأفندية)، وهي النخبة المثقفة المرتبطة بجمعية الاتحاد والترقي، التي قادت الانقلاب الدستوري، كان هؤلاء من الموظفين الحكوميين والمتعلمين على النمط الغربي، ودعموا التحديث تحت مظلة العثمانية، أما الفئة الثانية فكانت تضم مؤيدي الإصلاح الدستوري، الذين كانوا أقل عددياً قبل 1908، لكنهم استفادوا من أجواء الحرية النسبية بعد إعلان الدستور، وطالبوا بإصلاحات إدارية وقضائية، مع الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية للمدينة.
في خريف 1908، زار والي بغداد جاويد باشا كربلاء، مما أعطى زخماً للعمل السياسي، استغل المثقفون هذه الزيارة للمطالبة بتطبيق الإصلاحات، مثل إنشاء مدارس حديثة وتمثيل عادل للشيعة في المؤسسات الحكومية. كما ظهرت خطابات تنادي بدمج الهوية العربية مع الانتماء العثماني، في محاولة لموازنة النفوذ التركي.
في أواخر 1908، أسس مؤيدو الاتحاد والترقي فرعاً للجمعية في كربلاء، وضم شخصيات بارزة مثل الشيخ حسن الشبلي، وهو رجل دين شيعي مؤثر جمع بين المرجعية الدينية والدعم السياسي للدستور، كما انضم الحاج عبد المهدي الحافظ، وهو تاجر معروف، مثَّل النخبة الاقتصادية الداعمة للتحديث، بالإضافة إلى الشيخ كاظم أبو أذان، وهو خطيب وأديب استخدم منبره لنشر أفكار المساواة والعدالة، لعب هذا الفرع دوراً محورياً في تعبئة الرأي العام ضد السلطان عبد الحميد الثاني وساهموا في خلعه، حتى تم ذلك في أبريل 1909 عبر انقلاب قاده الاتحاديون.
أفرزت التحولات السياسية حراكاً ثقافياً انقسم إلى اتجاهين، الاتجاه التقليدي تمثَّل بأدباء حافظوا على الأساليب الكلاسيكية للقرن التاسع عشر، مثل الإطالة واستخدام المحسنات البديعية، كما في كتابات السيد محسن الأمين، الذي ركز على إصلاح المجتمع عبر الخطاب الديني، أما الاتجاه التجديدي، فقد تبَنَّاه شباب متحمسون مثل عبد المطلب الأديب الكربلائي، الذي مزج في شعره بين الدعوة للحرية والهوية العربية، كقوله:
دمشقُ العروبةِ تُحيي فجرَها
وكربلاءُ تُنادي: عاشَ الدستورا
بين أغسطس 1908 ومايو 1909، أصدرت الحكومة العثمانية سلسلة قوانين سمحت بحرية التعبير وإنشاء الصحف، فصدرت في كربلاء صحف مثل الفيحاء، كما تم فتح مدارس مختلطة المذاهب، كالمدرسة الجعفرية التي جمعت طلاباً شيعة وسنة، إضافة إلى ذلك، سُمح بتشكيل جمعيات سياسية، لكنها واجهت معارضة من بعض رجال الدين التقليديين الذين رأوا في الدستور تهديداً للهوية الإسلامية.
رغم فشل المشروع الاتحادي لاحقاً في تحقيق المساواة الكاملة، خاصة تجاه العرب والشيعة، إلا أن فترة 1908–1909 تركت إرثاً مهماً في كربلاء، تحولت المدينة إلى مركز للحوار بين التحديث والهوية الدينية، وظهر جيل جديد من المثقفين الذين شاركوا لاحقاً في الحركة العربية ضد الحكم العثماني، كما أُرست أسس النقد السياسي والاجتماعي، التي تأثرت بها حركات الإصلاح اللاحقة في العراق.
راجع
تاريخ كربلاء من الاحتلال العثماني حتى نهاية الحكم الملكي،أ.د.عدي حاتم المفرجي،بغداد،دار الحداثة،2024،ط1،ص140