كربلاء، المدينة العراقية التي ارتبط اسمها بالتاريخ والروحانية، لطالما كانت حاضنة لتقاليد اجتماعية وثقافية تعكس عمق الترابط بين أفراد مجتمعها، بمرور السنوات، شكّلت هذه العادات جزءاَ لا يتجزأ من الهوية الكربلائية، حيث كانت كل مناسبة تُحيي معاني الفرح والتلاحم، لكن، كغيرها من المدن العريقة، واجهت كربلاء تحديات اقتصادية واجتماعية وسياسية ساهمت في تراجع بعض تلك العادات.
من بين أبرز هذه العادات التي تحمل روح الماضي وتفاصيله، نجد زفة القرآن الكريم ،هذا التقليد الذي يمثل فرحة الطفل الكربلائي بإتمام تعلم قراءة وحفظ القرآن الكريم، كان في الماضي أكثر من مجرد احتفال عائلي، بل هو حدث اجتماعي يشارك فيه الجيران والأقارب وحتى الغرباء.
تبدأ المراسم بتحضير الطفل في أجواء مهيبة، حيث يرتدي لباساً خاصاً من ثوب ابيض جديد وعقال ويشماغ وعباءة مطرزة ، ويحمل ختمة القرآن الكريم بين يديه، بعدها، يخرج الطفل من بيته فيرافقه موكب أقرانه من الأطفال في مسيرة تعلوها الهتافات وأناشيد الفرح وصواني مملوءة بالشموع والحلويات وورد وياس كرمز للنور والعطاء، يتقدمهم الشيخ الذي اشرف على تعليمه، ويتقدم الموكب تلاميذ يرتدون الثياب البيضاء، بينما يضعون على رؤوسهم "العرقجين" أو غطاء الرأس التقليدي ، ثم يتوجهون نحو مرقد الامام الحسين (عليه السلام) وهم يرددون معاً أهازيج تعبر عن حبهم واعتزازهم بالقيم الإسلامية منها :
حب علي بن ابي طالب
احلى من الشهد الى الشاربِ
لو فتشوا قلبي رأوا وسطه
سطرين قد خُطا بلا كاتبِ
العدل والتوحيد في جانب
وحب اهل البيت في جانبِ
ثم تتوج الاحتفالية في صحن سيدنا العباس (عليه السلام) ، حيث يقف الأطفال في صفوف منظمة يرددون كلمات من القرآن ويتلقون التوجيه من الشيخ الذي أشرف على تعليمهم، هذا المشهد، الذي يفيض روحانية وفرحاً، كان يبرز الأهمية التي يوليها المجتمع لتربية أطفاله على القيم الدينية والاعتزاز بالقرآن الكريم(|1).
تمثل عادات كربلاء نافذة إلى ماضيها المشرق، ومرآة لروحها الجماعية التي لم تنكسر رغم كل التحديات، إحياء هذه التقاليد لا يعيد البهجة فقط، بل يربط الماضي بالحاضر ويضمن أن تظل كربلاء حيةً بتراثها، تسير نحو مستقبل يحمل عبق تاريخها وإرثها الثقافي حيث إن أهمية "زفة القرآن الكريم" وغيرها من التقاليد الكربلائية لا تكمن فقط في الاحتفال بإنجازات الأطفال، بل أيضًا في تعزيز الترابط الاجتماعي وغرس القيم الأخلاقية والدينية في نفوس الأجيال الناشئة، إعادة إحياء هذه التقاليد يمكن أن تكون خطوة في اتجاه استعادة روح المجتمع وتماسكه.
ويذكر ان العتبة الحسينية المقدسة لم تتوقف عن دورها الريادي في تعزيز وحفظ الهوية الكربلائية فكانت قد نظمت العديد من محافل تكريم حفظة القرآن الكريم وأسست مراكز متخصصة لتعليم وتحفيظ القرآن ، تسعى من خلال هذه الجهود إلى استعادة روح التقاليد القديمة وربطها بالواقع الحديث ، حيث كان وسيبقى القرآن الكريم هو أحد أبرز مكونات التراث الديني في مدينة كربلاء وجزء رئيسي من هويتها وارثها الثقافي والاجتماعي .
المصدر
(1)سعيد رشيد زميزم،كربلاء-تاريخاًوتراثاً،من إصدارات مركز كربلاء للدراسات والبحوث،كربلاء،2018،ط1،ص291