لا يخفى على الجميع أن العتبتين المقدستين الحسينية والعباسية قد شهدتا تطوراً مذهلاً في البناء المؤسسي والتنظيمي بعد عام 2003 ولحد الآن، ولم تنعكس آثار هذا التطور على الأدوار العبادية والعقائدية وتنظيم الزيارات المليونية واستقبال الزائرين فحسب، وإنما سجلت العتبتان مواقف إنسانية خالدة قل نظيرها في الوقت الحاضر، وذلك عبر مواكبتها لمختلف الحروب والأزمات التي عصفت بالعراق والمنطقة خلال العقد الأخير (2014-2024).
إن السمة الإنسانية في عمل العتبتين المقدستين لم تكن وليدة الحاجة فحسب، وإنما هي جزء من هوية مدينة كربلاء المقدسة وعمقها التاريخي الذي يرتبط بسيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) وما سطّره من مواقف تركت أبعاداً إنسانية تعجز عن وصفها الألسن وتحير في إدراكها العقول، وهكذا حملت العتبتان المقدستان هذه المبادئ كجزء من ديمومة خلود القضية الحسينية وتحقيق أهدافها السامية.
لقد تجلت المواقف الإنسانية للعتبتين في محطات كثيرة خلال السنين العشر الأخيرة، كان من أبرزها حرب د11عش في منتصف عام 2014، وما خلفته من تخريب للمنازل والمنشآت في المنطقتين الغربية والشمالية من البلاد، فكانت كربلاء والعتبتان المقدستان الحسينية والعباسية الملاذ الآمن والحضن الدافئ لآلاف العوائل النازحة، في الوقت الذي فيه معظم هذه العوائل من المذاهب والديانات الأخرى، وهذا بعد إنساني آخر، ففتحت العتبتان أبواب مدن الزائرين والمساجد والحسينيات التابعة لأهالي المدينة وجميع الأبنية الصالحة للسكن، ووفرت مختلف وسائل الراحة لهم من توفير وجبات الطعام وتقديم الخدمات الصحية ومختلف الاحتياجات الأخرى حتى انتهت الأزمة وعادوا إلى ديارهم بعد سنين من العيش الكريم في كربلاء.
جائحة (كورونا) التي اشتدت ذروتها في العراق مع بداية سنة 2020، كانت هي الأخرى حدثاً مأساوياً أدخل الرعب والخوف في النفوس، وحصَدَ الآلاف من الأرواح، وعلى عادتهما، كانت للعتبتين المقدستين في كربلاء من المواقف الكبيرة ما لا يزال حاضراً في الأذهان، فسارعتا إلى إرسال المستلزمات الطبية واللوجستية لمختلف المؤسسات التي تشهد اكتظاظاً بشرياً كالسجون والمدراس والجامعات وغيرها، وذلك للحد من الإصابة بالوباء، كما أنشأت العتبتان العديد من المراكز الصحية وردهات الإنعاش وبمواصفات عالمية، حيث افتتحت العتبة الحسينية في بادئ الأمر (4) مراكز أحدها في كربلاء المقدسة وآخر في النجف الأشرف واثنين في العاصمة بغداد (الكرخ والرصافة) وبتصاميم جميلة ومدد قياسية للتنفيذ. ثم توجهت بعد ذلك لإنشاء (6) مراكز أخرى، في محافظات تعاني من نقص السعة السريرية فيها وهي (البصرة، ذي قار، ميسان، واسط، الديوانية، ديالى).
أما العتبة العباسية فقد عملت على زيادة السعة السريرية في مستشفيات البلاد، وتوفير أماكن لعلاج مصابي (كورونا) بالتعاون مع وزارة الصحة، كما قامت العتبة المقدسة في وقت قياسي بإنشاء ردهة لعلاج المصابين في مركز الزهراء (عليها السلام) للأمراض الباطنية، ضمن مدينة الإمام الحسين (عليه السلام) الطبية في محافظة كربلاء المقدسة. وافتتحت أيضاً ثلاث ردهات للحياة خاصة بإنعاش ومعالجة المصابين بـ(كورونا) في كل من (مدينة الإمام الحسين (عليه السلام) الطبية في كربلاء، ومستشفى الهندية العام، ومستشفى أمير المؤمنين (عليه السلام) في محافظة النجف الأشرف، كما أنشأت ردهات مماثلة في كل من بغداد ومحافظة المثنى.
ومما يحسب للعتبة الحسينية المقدسة على المستوى الصحي والطبي، مبادراتها الإنسانية المتكررة في توفير العلاج ومختلف الخدمات الصحية بالمجان في المستشفيات التابعة لها خلال مدد زمنية محددة، خصوصاً في أوقات الزيارات المليونية. وفي تصريح رسمي: أكدت هيأة الصحة والتعليم الطبي التابعة للعتبة الحسينية أن "الحملات المجانية ومنذ الافتتاح لغاية 15 أيار 2024، تصدرت فيها مبادرة عطاء الحسين (ع) الصدارة في تغطية (4364) مريضاً وبكلفة إجمالية بلغت 3,653,837,362 ديناراً ، في حين جاءت مبادرة علاج أطفال مرضى السرطان بالمرتبة الثانية حيث غطت (2871) مريضاً وبكلفة إجمالية بلغت 19,310,774,190 ديناراً، وجاءت بالمرتبة الثالثة مبادرة المولد النبوي الشريف حيث غطت (1860) مريضاً وبكلفة إجمالية بلغت حوالي 268,467,794 ديناراً".
وانتقالاً إلى أحداث غزة ولبنان الأخيرة، وما ارتكبه الكيان الغاصب من مجازر وحشية ونسف كامل للعديد من المنازل والمؤسسات، وتعرّض الملايين من السكان إلى أبشع ممارسات القتل والتنكيل والتجويع، فنزحوا إلى سوريا والعراق ودول أخرى، كان للعتبتين الحسينية والعباسية أدوار إنسانية مهمة من خلال فتح مدن الزائرين أمام النازحين اللبنانيين، وإرسال القوافل الإغاثية إلى سكان غزة ولبنان، وكذلك افتتاح العتبة الحسينية المقدسة لمركز خاص باستقبال النازحين اللبنانيين في مدينة دمشق السورية من أجل تقديم المساعدات الطبية والغذائية واللوجستية الى العوائل النازحة، ليقوم بعد ذلك بنقل تلك العوائل الى كربلاء المقدسة. كما أن ممثل المرجعية الدينية العليا الشيخ عبد المهدي الكربلائي أعلن منذ انطلاق العدوان الغاشم على جنوب لبنان، عن تشكيل العتبة الحسينية المقدسة لجنة عليا لإغاثة الشعب اللبناني، وأكد استعداد العتبة لاستضافة العوائل اللبنانية المنكوبة، وأشار إلى انطلاق حملة الإغاثة الطبية والإنسانية للشعب اللبناني.
إن جميع هذه المواقف الخالدة للعتبتين المقدستين فضلاً عن منطلقاتها العقائدية والإنسانية كما سلف ذكره، كانت تلبية لنداءات المرجعية الدينية العليا المتمثلة بالإمام السيد علي السيستاني (دام ظله الوارف)، والذي يمثل اليوم الخيمة التي يستظل بفيئها جميع المستضعفين والمشردين من مختلف التوجهات والعقائد، والحصن الحصين والمدافع بصلابة عن القضية الفلسطينية ومختلف قضايا الأمة الإسلامية.
لا زالت العتبتان في كربلاء تقدمان خدماتهما الإنسانية للفقراء وذوي الشهداء والمرضى والنازحين وغيرهم على اختلاف انتماءاتهم الدينية والعرقية، حتى أصبح هذا الجانب الإنساني منهاج عمل ثابت وقيمة أخلاقية عظيمة يلتزم بها العاملون في العتبتين، مما يعكس الصورة الناصعة الحقيقية للدين الإسلامي الحنيف ومبادئه السمحاء التي تؤكد على التعايش السلمي وقبول الآخر.