محمد جواد الدمستاني
ذكرت عدة روايات تاريخية حين مرور أمير المؤمنين (ع) في كربلاء، نذكر بعضها:
الأولى : من كتاب وقعة صفين ، نصر بن مزاحم المنقري، رواية هرثمة – ص 140
عن هرثمة بن سليم قال: غَزَونا مَعَ عَلِيِّ بنِ أَبِي طالِبٍ غَزوَةَ صِفِّينَ، فَلَمّا نَزَلنا بِكَربَلاءَ صَلَّى بِنا صَلاةً، فَلَمّا سَلَّمَ رَفَعَ إِلَيهِ مِن تُربَتِها فَشَمَّها، ثُمَّ قالَ: واهاً لَكِ أَيَّتُها التُّربَةُ ، لِيُحشَرَنَّ مِنكِ قَومٌ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسابٍ .فَلَمّا رَجَعَ هَرثَمَةُ مِن غَزوَتِهِ إِلَى امرَأَتِهِ - وَهِي جرداءُ بِنتُ سميرٍ، وَكانَت شِيعةً لِعَلِيٍّ - فَقالَ لَها زَوجُها هَرثَمَةَ: أَلا أُعَجِّبُكِ مِن صَدِيقِكِ أَبِي الحَسَنِ؟ لَمّا نَزَلنا كَربَلاءَ رَفَعَ إِلَيهِ مِن تُربَتِها فَشَمَّها وَقالَ: وَاهاً لَكِ يا تُربَةُ، لَيُحشَرَنَّ مِنكِ قَومٌ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسابٍ! وَما عِلمُهُ بِالغَيبِ؟ فَقالَت: دَعنا مِنكَ أَيُّها الرَّجُلُ، فَإِنَّ أَمِيرَ المُؤمِنِينَ لَم يَقُل إِلّا حقّاً.
فَلَمّا بَعَثَ عُبَيدُ اللَّهِ بنُ زِيادٍ [61 هجرية] البَعثَ الَّذِي بَعَثَهُ إِلَى الحُسَينِ بنِ عَلِيٍّ وَأَصحابِهِ، قالَ: كُنتُ فِيهِم فِي الخَيلِ الَّتِي بَعَثَ إِلَيهِم، فَلَمّا انتَهَيتُ إِلَى القَومِ وَحُسَينٍ وَأَصحابِهِ عَرَفتُ المَنزِلَ الَّذِي نَزَلَ بِنا عَلِيٌّ فِيهِ، وَالبُقعَةَ الَّتِي رَفَعَ إِلَيهِ مِن تُرابِها، وَالقَولَ الَّذِي قالَهُ [واهاً لَكِ أَيَّتُها التُّربَةُ..]، فَكَرِهتُ مَسِيرِي، فَأَقبَلتُ عَلى فَرَسِي حَتَّى وَقَفتُ عَلَى الحُسَينِ، فَسَلَّمتُ عَلَيهِ، وَحَدَّثتُهُ بِالَّذِي سَمِعتُ مِن أَبِيهِ فِي هذا المَنزِلِ.
فَقالَ الحُسَينُ : مَعَنا أَنتَ أَو عَلَينا؟ فَقُلتُ: يَابنَ رَسُولِ اللَّهِ، لا مَعَكَ وَلا عَلَيكَ، تَرَكتُ أَهلِي وَولدِي أَخافُ عَلَيهِم مِنِ ابنِ زِيادٍ.
فَقالَ الحُسَينُ: فَوَلِّ هَرباً حَتّى لا تَرى لَنا مَقتَلًا، فَوَالَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَرى مَقتَلَنا اليَومَ رَجُلٌ وَلا يُغِيثُنا (نسخة لا يعيننا) إِلَّا أَدخَلَهُ اللَّهُ النّارَ. قالَ: فَأَقبَلتُ فِي الأَرضِ هارِباً حَتَّى خَفِيَ عَلَيَّ مَقتَلُهُ.
تعليق:الرواية في علم أمير المؤمنين (ع) والحسين (ع) بما يجري في كربلاء،في يقين الإمام الحسين، في إيمان المرأة جرداء،وضعف هرثمة. / النتهت الرواية
وقعة صفين، كانت في شهر صفر سنة 37 هجري، و بينها و بين كربلاء التي كانت في محرم 61 هجري أكثر من ثلاثة عشرين سنة، أو أقل من أربع و عشرين سنة .
و الكلام حول يقين أمير المؤمنين عليه السلام، و و علمه بالغيب و المغيبات، و إخباره بالغيب حيث أخبر عن وقوع معركة كربلاء بمدة، و أخبر عن شهادة الحسين و أصحابه عليهم السلام، كما أخبر عن دخولهم الجنّة دون حساب.
و كذلك الكلام حول اطمئنان و يقين الإمام الحسين عليه السلام، و علمه بما سيجري عليه، فقال عليه السلام « فَوَلِّ هَرباً حَتّى لا تَرى لَنا مَقتَلًا» ، و هو إخبار بشهادته عليه السلام.
كما نرى حرص الإمام الحسين (ع) على نجاة الإنسان و إن كان عدوا جاء لمقاتلته، فقال عليه السلام «فَوَلِّ هَرباً حَتّى لا تَرى لَنا مَقتَلًا، فَوَالَّذِي نَفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لا يَرى مَقتَلَنا اليَومَ رَجُلٌ وَلا يُغِيثُنا ( و في نسخة لا يعيننا) إِلَّا أَدخَلَهُ اللَّهُ النّارَ».
و هرثمة هذا جاء للقتال و شارك في الجيش ضد الحسين عليه السلام ، و سواء قاتل أو لم يقاتل فهو مأثوم و يستحق النّار إذ جاء ليقاتل ضد الحسين و كانت هذه نيته، و لكنه خرج و نجا بنفسه.
قلة إيمانه جعله يخرج من المعركة بعد أن رأى بينّات و دلائل واضحة بأحقية هذه المعركة مع الحسين، و أنها مع طرف الحسين سبيل لدخول الجنّة، لكنه لم يكن لديه إيمان يدفعه للشهادة، و تذرع بخوفه على أهله و ولده من الطاغية ابن زياد، و هو تبرير مدفوع.
و بالمقارنة الإيمانية بين هرثمة و زوجته جرداء بنت سمير يظهر فارق الإيمان و اليقين، فهو كان مشكك مع رؤيته بيّنات واضحات من أمير المؤمنين عليه السلام، و قاتل في صفوف جيش أمير المؤمنين و سمعه و رآه ، و تأكد من انطباق علم الإمام الغيبي في الواقع في كربلاء بعد ما يقارب من أربعة و عشرين سنة ، لكنه فر من كربلاء.
أما زوجته جرداء التي كانت في بيتها و لم تشهد معركة صفين و لم تقاتل و لم تسمع الكلام هذا من الإمام و لم تشاهده فقد كانت على يقين تام بأن أمير المؤمنين حق و لا يقول إلا الحق، يقين تام جعلها تقول لزوجها « دَعنا مِنكَ أَيُّها الرَّجُلُ، فَإِنَّ أَمِيرَ المُؤمِنِينَ لَم يَقُل إِلّا حقّاً»، نعم علي مع الحق و الحق مع علي، و مادام أمير المؤمنين قال شيئا فهو حق.
و إيها هذه للإسكات و الكفّ عن الكلام بمعنى حسبك ، أي اسكت و لا تكثر من الكلام فما دام امير المؤمنين قال هذا «وَاهاً لَكِ يا تُربَةُ، لَيُحشَرَنَّ مِنكِ قَومٌ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيرِ حِسابٍ» فهو واقع لا محال، وهو يعلم الغيب.
الثانية : رواية أبي جحيفة – كتاب وقعة صفين – ص 141
عن سعيد بن وهب قال: بَعَثَنِي مِخْنَفُ بْنُ سُلَيْمٍ إِلَى عَلِيٍّ فَأَتَيْتُهُ بِكَرْبَلاَءَ فَوَجَدْتُهُ يُشِيرُ بِيَدِهِ وَ يَقُولُ: «هَاهُنَا هَاهُنَا» فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ وَ مَا ذَلِكَ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ «ثَقَلٌ لِآلِ مُحَمَّدٍ يَنْزِلُ هَاهُنَا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِنْكُمْ وَ وَيْلٌ لَكُمْ مِنْهُمْ» فَقَالَ لَهُ اَلرَّجُلُ: مَا مَعْنَى هَذَا اَلْكَلاَمِ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَ: «وَيْلٌ لَهُمْ مِنْكُمْ تَقْتُلُونَهُمْ وَ وَيْلٌ لَكُمْ مِنْهُمْ يُدْخِلُكُمُ اَللَّهُ بِقَتْلِهِمْ إِلَى اَلنَّارِ». انتهت الرواية
مخنف بن سليم هو والي أمير المؤمنين على اصبهان و همدان، وهو الجد الأعلى للمؤرخ أبو مخنف صاحب مقتل الحسين عليه السلام، وكان أمير المؤمنين قد استدعى الولاة قبل الحرب للمشاركة فيها.
الثالثة : رواية كثير - كتاب وقعة صفين – ص 141
عن الحسن بن كثير عن أبيه
أَنَّ عَلِيّاً أَتَى كَرْبَلاَءَ فَوَقَفَ بِهَا فَقِيلَ: يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ هَذِهِ كَرْبَلاَءُ، قَالَ: «ذَاتُ كَرْبٍ وَ بَلاَءٍ»، ثُمَّ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى مَكَانٍ فَقَالَ: «هَاهُنَا مَوْضِعُ رِحَالِهِمْ، وَ مُنَاخُ رِكَابِهِمْ» وَ أَوْمَأَ بِيَدِهِ إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ فَقَالَ: «هَاهُنَا مُهَرَاقُ دِمَائِهِمْ» .
الرابعة: رواية في كتاب الإرشاد، الشيخ المفيد ، ج1ص۳۳۲
عَنْ جُوَيْرِيَةَ بْنِ مُسْهِرٍ اَلْعَبْدِيِّ قَالَ:
«لَمَّا تَوَجَّهْنَا مَعَ أَمِيرِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ إِلَى صِفِّينَ فَبَلَغْنَا طُفُوفَ كَرْبَلاَءَ، وَقَفَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ نَاحِيَةً مِنَ اَلْعَسْكَرِ، ثُمَّ نَظَرَ يَمِيناً وَ شِمَالاً وَ اِسْتَعْبَرَ، ثُمَّ قَالَ هَذَا وَ اَللَّهِ مُنَاخُ رِكَابِهِمْ وَ مَوْضِعُ مَنِيَّتِهِمْ، فَقِيلَ لَهُ يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ مَا هَذَا اَلْمَوْضِعُ، قَالَ هَذَا كَرْبَلاَءُ يُقْتَلُ فِيهِ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسٰابٍ، ثُمَّ سَارَ فَكَانَ اَلنَّاسُ لاَ يَعْرِفُونَ تَأْوِيلَ مَا قَالَ حَتَّى كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِي عَبْدِ اَللَّهِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ وَ أَصْحَابِهِ بِالطَّفِّ ..».
الخامسة : رواية في كامل الزيارات 269، بحار الأنوار ج۹۸ ص116،
عن الإمام الصادق عليه السلام قَالَ:
« مَرَّ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ اَلسَّلاَمُ بِكَرْبَلاَءَ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا مَرَّ بِهَا اِغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ هَذَا مُنَاخُ رِكَابِهِمْ وَ هَذَا مُلْقَى رِحَالِهِمْ، وَ هُنَا تُهْرَقُ دِمَاؤُهُمْ طُوبَى لَكِ مِنْ تُرْبَةٍ عَلَيْكِ تُهْرَقُ دِمَاءُ اَلْأَحِبَّة»ِ .
و هناك عدد من الروايات في ذكر مرور أمير المؤمنين عليه السلام ، نكتفي بهذه الخمس، و ممكن مراجعة المصادر الأخرى لمطالعة الروايات عن حديث أمير المؤمنين حين مروره بكربلاء نحو الطبقات الكبرى، الفتوح ، موسوعة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في الكتاب والسنة والتاريخ، مـسـند الإمام علي (عليه السلام) ، بحار الأنوار، إحياء الاحياء ، الخرائج والجرائح، قرب الاسناد، اثبات الهداة ، الصواعق المحرقة، الملاحم والفتن، تاريخ ابن عساكر، كامل الزيارات، وسائل الشيعة، تهذيب الأحكام.
اللهم احشرنا مع الحسين،و وفقنا في الدنيا زيارته وفي الآخرة شفاعته،والحمد لله ربّ العالمين
محمد جواد الدمستاني
04-08-2024