بعد رحلة بحثية دقيقة في أمهات المصادر التاريخية وكتب المقاتل، خلص الأستاذ عبد الأمير القريشي في كتابه "أصحاب الإمام الحسين بين الحقيقة والتشكيك... جدلية العدد" إلى نتيجة قاطعة مفادها إن عدد أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء لم يتجاوز المئة وخمسة وأربعين رجلاً، رغم اختلاف الروايات في الرقم الدقيق تبعاً لزمن الرواية ومكانها.
لكن المفاجأة الكبرى — كما يوضح القريشي — جاءت من آراء شاذة وغريبة حاولت تصوير المشهد وكأن الآلاف كانوا مع الحسين (عليه السلام) في معركته الخالدة، وهي روايات مفبركة ومتهافتة لا سند لها ولا أثر في أي مصدر معتمد.
ومن بين هذه الروايات، ما نقله ابن حبان (ت 354هـ)، المعروف بضعف توثيقه ودقته في النقل، حيث قال: سليمان بن صرد الخزاعي، له صحبة، وكان مع الحسين بن علي، فلما قُتل الحسين انفرد من عسكره تسعة آلاف نفس فيهم سليمان بن صرد..."، حيث تضرب هذه الرواية المنطق والتاريخ معاً، إذ تزعم وجود تسعة آلاف مقاتل مع الحسين، في حين أن جميع المصادر المتقدمة والمتأخرة تؤكد أن أنصار الحسين كانوا بالعشرات لا بالآلاف.
بل إن الواقع التاريخي يفضح هذه الرواية، فسليمان بن صرد الخزاعي لم يكن أصلاً في كربلاء، ولم يصل إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، وإنما خرج بعد الواقعة بثلاث سنوات في حركة التوابين للثأر من قتلة الحسين، واستشهد في معركة "عين الوردة" سنة 67 هـ.
ويُعرّف القريشي راوي هذه الرواية الغريبة، أبو حاتم محمد بن حبان البُستي — بأنه "حافظ خراساني" وُلد سنة بضع وسبعين ومئتين في مدينة "بُست"، من أعمال سجستان (أفغانستان الحالية)، ورغم شهرته في علم الحديث، إلا أنه ليس من مؤرخي المعارك أو المقاتل، ولا يُعتمد عليه في رواية الأحداث العسكرية أو التاريخية المفصلة، ما يجعل نقله هذا دليلاً على النقل غير المنضبط، لا على واقعة ثابتة.
كما يؤكد المؤلف إن عدم ورود أي ذكر لسليمان بن صرد أو لتسعة آلاف مقاتل في عشرات المصادر المعتبرة — من الطبري إلى البلاذري، ومن ابن الأثير إلى المسعودي — يجعل من هذه الرواية موضوعة بلا شك، أُريد بها طمس حقيقة المعركة وتشويه رمزيتها القائمة على التضحية الفردية في وجه الطغيان الجمعي.
والخلاصة هنا أن “الآلاف” الذين تذكرهم بعض الكتب ليسوا إلا وهماً سياسياً أو تلفيقاً متأخراً، بينما الحقيقة التي لا يختلف عليها المحققون، هي أن كربلاء لم تكن ميدان أعداد، بل امتحان مبادئ؛ فيها واجهت حفنة من الأبطال جيشاً جراراً، لتُثبت أن النصر في ميزان السماء لا يُقاس بالكثرة، بل بالثبات على الحق.
المصدر: عبد الأمير عزيز القريشي، أصحاب الإمام الحسين بين الحقيقة والتشكيك – جدلية العدد، مركز كربلاء للدراسات والبحوث، 2022، ص108-109.