حرفة الصياغة من أقدم الحرف التي عرفتها البشرية، إذ تقوم على تحويل المعادن النفيسة إلى قطع من الحلي والمخشلات. وقد يضيف الصائغ إلى هذه المعادن أحجارًا كريمة وزجاجًا وزخارف متنوعة، فيظهر ما يعرف بفن تصنيع المجوهرات وتشكيل الحلي. ومن أبرز الأحجار التي تزين بها المشغولات الذهبية: العقيق، الياقوت، الزمرد، اللؤلؤ، والزجاج.
يُعد الذهب من المعادن الثمينة التي ارتبطت بالزينة منذ القدم، واقتنته النساء بشكل خاص، حتى أصبح رمزًا للجمال والمكانة الاجتماعية. وقد حظيت صياغة الذهب بمكانة بارزة في مختلف الحضارات القديمة، حيث عكست الآثار والمتاحف قيمة الذهب عبر التاريخ. وفي العراق، عُرفت المدن الدينية – ومنها كربلاء القديمة – بازدهار هذه المهنة، حيث تنتشر الورش والمحلات التي تعرض مختلف أشكال المصوغات الذهبية. وتتميز منتجات الصاغة الكربلائيين بجودة الذهب ونقاء المعدن، إضافة إلى جمال النقوش والزخارف التي تزينه، مما جعل واجهات محلاتهم الزجاجية المضيئة تجذب الأنظار، خصوصًا النساء الباحثات عن أجمل وأجود القطع.
لقد برع عدد من صاغة كربلاء الذين ورثوا المهنة عن آبائهم في فن النحت والتشكيل على الذهب. ولم يكن هذا العمل يسيرًا، إذ يتطلب خبرة عالية ومهارة فنية دقيقة، إلى جانب الحس الجمالي والذائقة الرفيعة. كما يشترط أن يكون الصائغ ملمًا بكيمياء المعدن الثمين. وقد أبدع الصاغة الكربلائيون في أساليبهم الخاصة حتى باتت صياغة الذهب في كربلاء مدرسة فنية متميزة ذات قيمة مستمدة من التراث الروحي للمدينة.
وقد وثّق الرحالة الأجانب نشاط الصياغة في كربلاء. فـ لوفتس (1853م) وصف الصاغة بإبداعهم في صناعة المصوغات المخرمة والنقش المتقن على الأصداف المستوردة من مغاصات البحرين. بينما تحدث جون آشر (1864م) عن ازدحام المدينة بالناس وأسواقها المتنوعة، مشيرًا إلى وجود مصوغات وأحجبة وتعاويذ كان الجوهريون يعرضونها للبيع للزوار. وروى حادثة رفض أحد الصاغة بيع تعويذة لمرافقه المسيحي لاحتوائها على آيات قرآنية.
توزعت محلات الصياغة في أسواق كربلاء القديمة، مثل سوق العباس، عكد الداماد، وعكد الأخباري. وانقسم الصاغة إلى ثلاثة أقسام:
1. صاغة المينا والفضة، حيث برع الكربلائيون في النقش بالمينا على الفضة.
2. صاغة الذهب، المشهورون بدقة الصناعة وإبداع الأقراط والأساور والقلائد وغيرها من حلي النساء.
3. صاغة المعدن الأصفر (الشبه)، الذي استعمل كبديل للذهب في الزينة.
ومن أبرز الورش في ذلك الوقت: ورشة الحاج عبد الصاحب النصراوي، ورشة نعمة البازي وأولاده، ورشة الحاج شاكر البازي وأولاده، وورش السادة آل نصر الله. وكان سوق الذهب المقابل لباب الحسين من جهة مرقد أبي الفضل العباس من أشهر أسواق الصاغة، فضلًا عن السوق العربي المعروف بكثرة محلات الصياغة.
اعتمد الصاغة في عملهم على أدوات ومواد أساسية مثل: الشورة، البروش، الشب، الملح (شناذر) المستخدم في إشعال الفحم، إضافة إلى المطرقة، السندانة، الكوبية، البورق، المنفاخ، المفر، المربعة، الملقط، المقص، البودقة، والسمبة.
في السبعينيات وبداية الثمانينيات من القرن العشرين، كان البنك المركزي العراقي يزوّد الصاغة بسبائك الذهب بحصص شهرية. وبعد توقف هذه الحصص، اعتمدوا على الاستيراد من الخارج أو شراء الذهب الخالص (عيار 24) من مصرف الرافدين، ثم صياغته في ورشهم. تبدأ العملية بإذابة الذهب في البودقة وصبه في قوالب صغيرة، ثم تشكيله بالماكينات والأدوات حسب الأشكال المطلوبة، وبعدها يُرصّع ويُنقش باستخدام أداة السمبة. وأخيرًا، يُجلى الذهب بمزيج من الملح والشب والشورة بدرجات حرارية دقيقة ليصبح جاهزًا للعرض.
ومن أشهر محلات الصاغة في تلك الفترة: الحاج رضا الهندي وأولاده، الحاج حسين القصاب وأولاده، الحاج كاظم البازي، الحاج رضا الصائغ (أبو كريم)، الحاج محمد آغا الصائغ، الحاج ناجح عمران الصائغ، الحاج جواد الملا الصائغ، الحاج ناجي الجحيشي، وغيرهم من الأسماء التي تركت بصمة في تاريخ صياغة الذهب في كربلاء.
المصدر: موسوعة كربلاء الحضارية، الجزء الأول، ص 102-107