كادت أربعة قرون من الاحتلال العثماني للعراق، أن تطمس لسانه العربي وتطفئ جذوة حضارته، لولا أن تصدّت كربلاء والنجف للهجمة الثقافية الطورانية، فأنقذتا هوية الأمة وحملت راية البيان في زمن الانحطاط.
وعلى مدى هذه القرون الأربع، خضعت بلاد الرافدين لسلطة الاحتلال التركي العثماني، الذي حاول بكل وسائله محو الهوية الحضارية والثقافية للعرب، عبر فرض اللغة التركية وتتريك مؤسسات الدولة والبيوت والمدارس، خصوصاً بعد صعود حركة "الاتحاد والترقي" إلى السلطة وتنفيذها سياسة "الطورانية" العنصرية.
ورغم أن آلة التتريك اتخذت من بغداد الوسطى بوابة لإختراق العقل العربي، فإن معاقل المقاومة الثقافية ظلت صامدة في كربلاء والنجف، حيث انبرى علماء الدين، والأدباء، والمؤرخون للدفاع عن جوهر العروبة، مستندين إلى القرآن الكريم كحصن لغوي وأيديولوجي في مواجهة ما وصفوه بـ"الاجتياح البربري التركي".
وكان الشاعر الكربلائي الفحل، الشيخ "عبد الحسين الحويزي" شاهداً على هذا التحول، فوثّق في شعره كيف تغلغلت التركية في جسد العراق حتى ظن البعض أن "أمراء الشعب" عربٌ، وهم في الحقيقة "أتراك"، على حد قوله:
أمراء شعبك يا عراق حسبتهم بين الملا عربًا وهم أتراك
وفي بيت آخر أكثر صراحة قال:
كنا نظن بأنهم عربٌ لم ندرِ قد نشؤوا وهم تُركُ
فكانت كربلاء التي إحتضنت جسد الإمام الحسين "عليه السلام"، أكثر من مجرد مقامٍ روحي، بل صارت قلعة علمية وثقافية كبرى، احتضنت الوافدين من سائر بقاع العالم الإسلامي، وبالأخص من تعرض منهم للتتريك القسري، فتهافتت إليها قوافل الزائرين والمهاجرين طلباً للسكينة الروحية والهوية الحضارية، فامتزجت أعراق شتى بسكانها، لكن العربية بقيت لسان القلب والعقل والدين.
وفي ظل غياب دعم رسمي، حافظت المدارس الدينية في النجف وكربلاء على دورها الريادي في تدريس العربية وآدابها، فأنقذت الإرث العربي من الانقراض، في الوقت الذي كانت فيه بغداد تغرق في بحور التغريب الثقافي واللغوي.
المصدر: صادق آل طعمة، الحركة الأدبية المعاصرة في كربلاء، 2014، ص14-16.